(كل يبكي على ليلاه)
بقلم : نهلة ناصر
العودة الى صفحة المقالات

في أحاديث النساء

كلما خرجت الى عملي اشاهد في طريقي اليه مجاميع من الناس، الرجال فيهم اكثر من النساء. منهم من يذهب الى عمله وآخر لانجاز معاملة، ربما، لا اعرف. ولانني لا اعرف وجهة كل هؤلاء الناس، قررت ان اسأل النساء. لانكم تعرفون الى ماذا سأتعرض لو اني سألت كل رجل اصادفه عن وجهته؟ هذا اولاً. وثانياً لاني ارى اغلب النساء يسرعن في التنقل من سيارة الى اخرى ومن شارع الى اخر، فأردت معرفة السبب.

ما إن خرجت من بيتنا حتى رأيت شابة مسرعة، تحمل طفلاً في عامه الاول، تتجه الى نهاية الشارع، سألتها عن سبب سرعتها، فأجابت وعلامات التعب بادية عليها:

- عليّ ان اصل الى بيت اهلي وأضع طفلي عندهم لاستغل ما تبقى من الوقت للوصول الى دائرتي التي اضطر الى (صعود) سيارتين حتى اصل اليها.

< ولكن ألا توجد حضانة في دائرتكم او بالقرب منها؟

- لا. وإن وجدت بالقرب من دائرتي فاني لا افضل تسجيل طفلي فيها لاسباب كثيرة، منها خوفي من عدم حرص العاملين فيها على سلامته وشكي في توفر النظافة اللازمة التي تحميه من الامراض. واخيراً وهو الاهم، ان ما يتبقى من راتبي وراتب زوجي لا يكفي لاعطائه رسم اشتراك للحضانة مقابل تسجيله.

< لماذا لا يقوم زوجك بايصال طفلك الى بيت اهلك؟

- الرجال لا يهتمون الى هذه المسائل ويعتبرونها تحصيل حاصل، فالمرأة هي التي تتكفل بهذا الموضوع. وربما هو خطؤنا بان نسهل كل الصعوبات التي تواجهنا كزوجين. ناهيك عن التحسس من موضوع امي وامك وبيت اهلي وبيت اهلك...

ودعتها وتمنيت لها سلامة الوصول مع طفلها وتابعت طريقي.

وصلت الشارع العام، سمعت جلبة وصوت رجال "الله... الله". انها امرأة كبيرة في السن وقعت بعد ان علق طرف عباءتها بباب سيارة الكيا التي يحاول سائقها الهروب، بعد ان توقف قليلاً لتصعد، من رجل المرور الذي يطارده.

سقينا المرأة وقمت باصلاح هيئتها ومساعدتها على النهوض لمواصلة سيرها الى وجهتها. سألتها:

< "خالة" الى اين انت ذاهبة؟ اجابت بألم وحسرة:

- الى دائرة التقاعد. لا ادري متى ينتهي هذا الهم.

< أليس لك ابناء او احفاد يرافقونك الى الدائرة؟

- كل مشغول بحياته، فهذا بعمله وذاك بدراسته... "خليهه على الله".

شكرتني وذهبت في طريقها وأنا الى سيارة اخرى توصلني الى عملي. زاحمتني امرأة في عقدها الرابع للصعود قبلي الى السيارة. فسحت لها المجال وصعدت بعدها لاجلس بالقرب منها، وبعد ان دفعنا اجرة السيارة سألتها عن سبب سرعتها. ردت وهي تبتسم معتقدة اني سالتها بسبب مضايقتها لي اثناء صعودنا للسيارة:

- انا اسفة ان زاحمتك اثناء الصعود ولكن صدقيني لقد خرجت من بيتي منذ ساعتين وها انا مازلت في الطريق الى عملي، لا اعرف متى سأصل، فذاك الشارع اغلق لان مسؤولا يمر فيه، وهذا الشارع ازدحام لان سيطرة تتوسطه، وهكذا... متى يتوب الله عليّ من هذا العذاب؟!

< الا تشجعين عمل المرأة واستقلالها ماديا؟ اجابت بعصبية:

- اشجعه متى ما وفرت لي دائرتي خط سيارة مبرد على الاقل في هذه الايام الحارة التي لن يتحملها أي انسان.

هدّأت من روعها وقلت لها كلنا معرضون للظروف نفسها ولا بد يأتي يوم نرتاح فيه من هذا العذاب. ولكن يبدو ان امرأة تجلس خلفنا سمعت حديثنا، فأرادت التخفيف عن هذه الموظفة الثائرة على ظروفها فقالت لها:

- عزيزتي كل ما ذكرته صحيح ولكن ما يزيده مرارة ان ازواجنا لا يقدرون معاناتنا هذه ويطالبوننا بالمزيد عند عودتنا الى بيوتنا. ولكن صدقيني كل ذلك يهون عند تسلم الراتب الذي نتعب في الحصول عليه، وإن جعلناه رهن طلب الاسرة، ولكن نستطيع ان نتصرف ببعض منه لانفسنا، وهذا ما تتحسر عليه اغلب ربات البيوت اللاتي يتمنين الحصول على فرصة عمل.

"نازل" صاحت الموظفة الثائرة وقد هدأت قليلاً بعد ان تكلمنا معها. سرت مسافة بعد ان ترجلت من السيارة لاستقل اخرى، في الطريق نفسه الذي تجلس فيه عجوز تستجدي المارين مما اعطاهم الله. اعطيها المقسوم كل مرة وامضي في طريقي. هذه المرة وقفت لسؤالها:

< لماذا تجلسين في الشارع في هذا الحر؟ الا يوجد من يعيلك؟

- اجلس لان لا احد من ابنائي الذين ولدتهم وسهرت عليهم وربيتهم ليتخرجوا ويعملوا يتكفل برعايتي، فهذا يرميني على ذاك، وذاك يستثقل وجودي هو وزوجته التي احتضنتها كإبنتي وربيت لها طفلين. انهم يطبقون الدين "وبالوالدين احسانا"! اي إحسان هذا بـ"المنية"؟! ففضلت كسب قوت يومي وتخليصهم من مسؤوليتي.

< هل يعرفون انك تجلسين هنا تطلبين من الناس مساعدتك؟ وماذا تتوقعين ان يفعلوا لو رأوك؟

- لن يفعلوا شيئاً. وإلا لكانوا بحثوا عني وقت غيابي عن البيت.

< لماذا لا تقدمين الى دائرة الرعاية الاجتماعية، فالراتب الذي ستتسلمينه سيجنبك هذه الجلسة؟

- اعرف اناساً عندهم هوية من الرعاية الاجتماعية وهم بعد ستة اشهر من تسلمها لم يتسلموا أي راتب. فماذا تقولين يا ابنتي؟!

تركتها وانا اعرف ان ما تقوله صحيح، ولكن ما العمل اذا كانت دوائر الرعاية الاجتماعية تؤخر رواتب المستحقين ليبقى حال البعض منهم كما رأينا؟

واصلت طريقي باتجاه ساحة الاندلس لاستقل سيارة تمر بالقرب من دائرتي. وانا بالانتظار لمحت امرأة تتجه نحوي تجاوزت عقدها الخامس قليلاً تتكئ على ذراع ابنتها التي بدت في العشرينات من عمرها، وقد بان عليهما الاجهاد من شدة التعب والحر. اقتربتا مني. وبعد ان سألتهما عن وجهتهما، قالت الابنة:

- نحن ذاهبتان الى مستشفى الطب الذري بعد ان راجعنا فيها البارحة وطلب منا ان نعمل تخطيط قلب وايكو لتحديد عدد ونوع الجرعات الكيمياوية التي يجب ان تأخذها امي – مشيرة الى المرأة التي ترافقها – بعد عملية استئصال الثدي التي اجرتها قبل اسبوعين لاصابتها بسرطان الثدي. واضافت وهي متذمرة:

- لماذا لا يجلبون اجهزة التخطيط والايكو الى المستشفى ما دامت ضرورية لتحديد حالة المريض. هذا فضلا عن معاملة بعض الاطباء الذين عاملونا وكأننا نكرة امامهم! هل رفعت الرحمة من قلوبهم؟ ألا يعلمون ان نصف العلاج هو الحالة النفسية للمريض المصاب بمرض كهذا؟ اما تكاليف العلاج خارج المستشفى، فحدّث ولا حرج، فمستشفى ابن النفيس التي تم تحويلنا اليها لاجراء التخطيط والايكو، حددت لنا اسبوعا للمراجعة، فيما نصحنا الطبيب المختص بعلاج والدتي بأخذ الجرعات الكيمياوية بأسرع وقت ممكن كي لا ينتشر المرض في جسمها. اية حيرة هذه؟ هل ننتظر اسبوعاً آخر لنعود الى نقطة الصفر التي بدأنا منها وربما الحالة تصبح اسوأ بعد ان يتفشى المرض في جسمها؟ ماذا نفعل؟

تركتها بعد ان تمنيت لها الشفاء التام مع توقعي تدهور حالة والدتها ما دامت الخدمات الصحية المقدمة في مستشفياتنا لمتوسطي الدخل بالشكل الذي تحدثت عنه الفتاة.

ذهبت الى دائرتي، وكنت قد حاولت المحافظة على هدوئي، رغم ما سمعت من النساء اللاتي صادفتهن في يومي هذا. ولكن هيهات، ففي طريق العودة وقد بلغت الحرارة ذروتها في ظهيرة يوم تموزي كادت امرأة استقلت معي سيارة الـ(كوستر)، ان تفقد اعصابها بعد ان مزق احد المقاعد طرف عباءتها، وهي تقول للسائق: لماذا لا تصلحون المقاعد؟ ما ذنبي انا؟ وبكم سأشتري عباءة جديدة؟ هكذا انتم سواق الكيا والكوسترات تأخذون الاجرة ولا تفكرون بالراكب.

لم اتحدث معها بأي شيء تركتها وتمنيت الوصول الى بيتي بأسرع وقت ممكن لأحظى بالهدوء والسكينة التي فارقتني طوال ساعات هذا اليوم.

  كتب بتأريخ :  الإثنين 09-08-2010     عدد القراء :  2389       عدد التعليقات : 0

 
   
 

 
 

 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced