أصدقاء المحتلّ يرتدون ثياب المحرّرين
نشر بواسطة: Adminstrator
السبت 21-01-2012
 
   
عقيل عباس
في العادة يكون الخطاب السياسي لأية دولة "طبيعية" تعبيراً عن القيم العامة التي تؤمن بها هذه الدولة وتسعى لترسيخها في حياة المجتمع عبر سلوكها وقراراتها. تكمن روح الدولة المدنية الحديثة وتميزها الايجابي في قدرتها على أن تتمثل خطابها في أفعالها، أي في إلغائها التناقض بين إيمانها وسلوكها، وفي العراق الجديد ثمة انفصام حاد بين الخطاب السياسي للدولة وسلوكها الفعلي.



في هذا الخطاب الذي تروج له بدأب ممل الحكومةُ ومعها معظمُ الطبقة السياسية، تزدهر المساواة بين العراقيين كقيمة أساسية ومبجلة غير خاضعة للتجزئة أو المساومة، فيما سلوك الدولة، التي اختزلتها لسوء الحظ الحكومة، يزدحم بالطائفية الاجتماعية والسياسية، التي تلغي تماماً فكرة المساواة، وبتعضيد رسمي وقانوني!. أيضا يُمعن هذا الخطاب في التأكيد على الكفاءة والمهنية في توظيف الناس ومنح المناصب، فيما الولاءات الحزبية والطائفية والعائلية والمناطقية هي الأسلوب السائد في الحالين.
كذلك يؤكد هذا الخطاب كثيراً، وعلى نحو مهووس غالباً،  مفاهيم السيادة والاستقلال والوطنية والدفاع عنها ورفض التدخل الخارجي فيما الواضح  والمؤكد إن لاعبين إقليميين ودوليين معروفين لهم أدوار حاسمة، ومعلنة أحيانا، في إدارة ملفات عراقية كثيرة و"حل معضلاتها"، بضمنها من يتولى المنصب الأقوى في البلد، رئاسة الوزراء.  هكذا هو خطاب الدولة العراقية، كما يردده دون حياء أساطين هذه الدولة وممثلوها الرسميون من حكوميين وغير حكوميين: حشد مُفتعل من المقولات المعبأة بالقيم النبيلة والإعلانات المثالية عن الوطن والقانون والمساواة، يقابلها سلوك حكومي وسياسي ينسف هذه القيم تماماً، وهو ما يجعله خطاباً فاقعاً ومهلهلاً، يهزأ بذاكرة الناس ويُزيف الاحداث، ويحوله  إلى طنين لغوي لا يستحق التصديق أو الإنصات له.  على مدى سنوات تسع قاسية وشحيحة بما يُفرح، أصبحت تناقضات هذا الخطاب ومفارقات السلوك التي تصاحبه يومية ومألوفة إلى الحد الذي فقدت معه قابليتها على إثارة الصدمة أو الفضيحة.
لعل آخر هذه التناقضات كانت بخصوص الانسحاب الأميركي من البلد. مرةً أخرى يؤكد هذا الخطاب  الميزة الأبرز فيه: افتقاره للصدق… لقد تمحورت تصريحات الساسة الكثيرة  وكتاباتهم القليلة عن الموضوع، على نحو استعراضي لا يخلو من الزيف المتعمد أحيانا، حول مقولات إيديولوجية ونمطية اختزلت العلاقة العراقية-الأميركية البالغة التعقيد والتداخل في هيئة صراع مألوف وبسيط وساذج بين قوتين متنافرتين: الاحتلال والتحرير.  في ثنايا هذا الخطاب، يجري تصوير انسحاب هذه القوات على انه محصلة ٌ طبيعية لإجماع مجتمعي-سياسي عراقي برز عبر "مقاومة" وطنية واسعة تزعمها الساسة العراقيون، ومن ورائهم وقف شعبٌ متراصٌ ومنسجمٌ في رفضه "الاحتلال الأميركي"… في خضم هذا التبسيط الهائل، يبدو الانسحاب فعلاً اضطرارياً أميركيا يوازي الهزيمة، يقابله انتصارٌ عراقيٌ يُبرز صلابة ً سياسية ً "قيادية" وتماسكاً شعبياً "تابعاً" أجبرا  أخيرا "المحتل" الأميركي على الإقرار بـ"هزيمة" الانسحاب، وتجرع مرارتها. ثمة افتراض "إنقاذي" يعتمل في روح هذا الخطاب مؤداه إن هذا الانسحاب يمثل نهاية الشوط لأحزان ومصاعب عراقية تسبب بها  "الاحتلال" العسكري الأميركي. كان هذا الافتراض حاضراً على نحوٍ غير موارب في خطب  رئيس الوزراء نوري المالكي وتصريحاته عن الانسحاب، وفي تهانيه الهاتفية للعراقيين في اليوم الرسمي المحدد للانتهاء منه، وفي إعلانه الانفرادي، وغير الدستوري، بجعل ذلك اليوم عيداً وطنياً.
من الواضح إن الخطاب السياسي العراقي بشأن الانسحاب الأميركي يحاول أن يستعير أقصى ما يمكنه من خطاب التحرير الوطني الذي ساد المنطقة العربية ومناطق أخرى في العالم منذ خمسينات القرن العشرين، في أجواء التخلص من هيمنة القوى الاستعمارية الأوروبية وبروز العالم الثالث ككتلة عالمية صاعدة وحّدت دولَها الشديدةَ التنوع مظالمُ الاستعمار الأوروبي. كانت انتفاضات التحرير الوطني وثوراته تلك  لحظات تألق وطني جديرة بالتبجيل خفتت تدريجياً بسبب إخفاق نخب التحرير الحاكمة في بناء أنظمة حكم إنسانية وترسيخ قيم مدنية تتجاوز ثنائية الصراع التبسيطية بين الاحتلال والتحرير. كانت نُذر هذا الإخفاق واضحة في خطاب التحرير نفسه الذي امتاز عموماً بُطهرانية مُفتعلة أفرطت في لوم الآخر الأوروبي على كل مصائب المكان (الوطن) المُحرر، بقدر إفراطها في إعفاء نُخب التحرير وجمهورها "المحارِب" والمتأهب دائماً من واجباتهم التاريخية في تشييد غدٍ وطني وديموقراطي أفضل من الأمس الاستعماري  والقامع. لسوء الحظ، تتشابه في هذا الإخفاق نخبُ التحرير الوطني تلك مع النخبة السياسية العراقية الحالية، برغم اختلاف  الأسباب. 
يصعب كثيراً حشرُ التجربة العراقية الأميركية منذ عام ٢٠٠٣ في حزمة تجارب التحرير الوطني تلك، على ذات النحو الذي يستحيل فيه، من دون اقتراف عسف معرفي وتاريخي شديد، تفسير مفردات هذه التجربة على أساس مقولات التحرير الوطني المعروفة. من الصعب أن تسمي الطبقة السياسية العراقية الوجود العسكري الأميركي احتلالاً وتعامله على هذا الأساس، فيما كانت معظم هذه الطبقة، قبل عام ٢٠٠٣، تحث أميركا سراً وعلناً، أو على الأقل، تتمنى منها أن تطيح بنظام صدام، بعد  تأكدِ عجزِها عن القيام بالأمر. نعم، ليس بمقدورها أن تدين أميركا بعدوانية الاحتلال فيما كانت قوات هذه الأخيرة هي التي حمت هذه الطبقة، و حمت معها العملية السياسية التي أوصلت هذه الطبقة إلى السلطة، و التي عبرها أيضا تشكلت الدولة العراقية الجديدة التي تديرها هذه الطبقة بحمق واستئثار شَرسَين.  ليس بمقدور هذه الطبقة أن تحاكم أميركا أخلاقيا بمظلومية الخاضع لعناءات الاحتلال، فيما كان الكثير من أعضائها  يستقوون بقوات هذا "الاحتلال" ضد خصومهم من أبناء الوطن ويحرضونها ضدهم في أثناء صراعهم الدموي معهم على شكل هذا الوطن ومصيره وهوية أصحاب اليد العليا فيه. من الصعب على الساسة العراقيين أن يستخدموا مقولات التحرير فرحاً بالرحيل الأميركي فيما كانوا في خلال سنوات القتل العراقي-العراقي يصرون علانية ً على بقاء هذه القوات كمصد ضد تمدد الفوضى المطلقة التي أخرجها من مكامنها غيابُ الحكمة فيهم، وعجزُهم عن تأسيس قوات وطنية عراقية يُعتد بها لحماية أمن البلد والالتزام بقوانينه.  باختصار شديد، لا يحق للساسة العراقيين أن يرتدوا بزات المحررين في لحظات الرحيل الأميركي الأخيرة، لان "المُحتلين"  كانوا، وما يزالون، حلفاءهم وأصدقاءهم. الوحيدون الذين يحق لهم أن ينظروا لوجود أميركا في العراق عبر عدسات الاحتلال هم اؤلئك العراقيون الأبرياء الذين أمعنت في إيذائهم الحراب الأميركية، جهلاً أو قصداً، وأفسدت عليهم حياتهم بجروح عميقة ودائمة. هؤلاء وحدهم، وأظنهم أقلية، هم أصحاب الحق الأخلاقي والوطني في أن ينعتوا أميركا وقواتها بالاحتلال وان يفرحوا برحيلها، لكن ليس هؤلاء الساسة بالتأكيد. معظم العراقيين الآخرين منحتهم أميركا ذلك الفرح النادر والغامر عندما كنست قواتها نظام صدام من واجهة الحياة في البلد وأنزلت العقاب القضائي برموزه.
من أسهل الأشياء في العراق هو لوم أميركا على الأخطاء التي ارتكبتها فيه وعلى الأخطاء التي لم ترتكبها... لا جدال إن أخطاءها كثيرة وفادحة وساهمت كثيراً في صناعة المأزق العراقي الحالي. لكن أخطاء الساسة العراقيين أكثر وأشد فداحة، فهم لم  يشاركوا أميركا في صناعة المأزق فحسب، بل يصرون أيضا على إطالة أمده والانتفاع منه. 
الصدق صفة مفقودة في سلوك طبقتنا السياسية كما في خطابها.

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced