أرونداتي روي:ضوء الديمقراطية المُنخفت
نشر بواسطة: Adminstrator
الأحد 20-09-2009
 
   
كلمة الكاتبة الهندية أرونداتي روي في

افتتاح مهرجان برلين العالمي للادب





في الوقت الذي ما زلنا نتناقش فيه ما اذا وُجدت حياة ما بعد الممات، هل لنا أن نضيف سؤالاً آخراً الى الجعبة؟ هل من حياة ما بعد الديمقراطية؟ ما هو نوع هذه الحياة؟ لا أعني بالديمقراطية كمثالٍ أو كوحيّ، بل أعني بها المفهوم العملي: الديمقراطية الغربية الليبرالية ومتغيراتها، أي في شكلها الحالي.



اذاً، هل من حياة ما بعد الديمقراطية؟



ان المحاولات للاجابة عن هذا السؤال غالباً ما تتحول الى عملية مقارنة ما بين أنظمة حكمٍ مختلفة وتنتهي بدفاعٍ مغيظ وقتالي عن الديمقراطية.

نقول، "انها مغلوطة (الديموقراطية) وهي ليست بكمالية، غير أنها لا تزال أفضل من أي شيء آخر مطروح".

ومن ثمّ وبشكلٍ محتوم، يهمّ واحدٌ من بين الجمع بالقول:

"أفغانستان، باكستان، السعودية، الصومال... هل هذا ما تفضلونه؟"

أن تكون الديموقراطية هي اليوتوبيا التي تطمح اليها كافة المجتمعات المتطورة، سؤالًُ مستقل بحد ذاته .وأظن أنه ينبغي أن يكون كذلك. فالمرحلة الأولية المثالية لنشأتها هي ربما مصدر غبطة.



إن السؤال عن الحياة ما بعد الديمقراطية موجه الى هؤلاء الموجودين بيننا الذين يعيشون أصلاً في ظلّ الديمقراطيات، أو في بلدان تزعم بأنها ديمقراطية. وليس المقصود بالسؤال هنا أن ننحدر الى أشكال قديمة ومشوهة من الحكم التوتاليتاري أو الاستبدادي.

بل المقصود أن نظام الديمقراطية التمثيلية، وهي أكثر تمثيلاً منها ديمقراطيةً، بحاجةٍ الى بعض التعديل الهيكلي.



قد يكون من غير الملائم أن ينتقد شخصٌ الديمقراطية أمام جمهورٍ يجمع ما بين كتابٍ من بلدان لم تعرف شعوبها الديمقراطية قطّ، أم أن أنظمتها التوتاليتارية حرمت شعوبها من الحقوق الأساسية ولكننا كلنا نعلم بأن الأنظمة السياسية مرتبطة ببعضها البعض تماماً كالرأسمال العالمي.

وفي أغلب الأحيان، تكون الأمم الديمقراطية العظمى، المتنكرة بزي حراّس الأخلاقية ومخلصي الانسانية، هي التي تمول وتقوّي الأنظمة الديكتاتورية والتوتاليتارية. ونعلم تماماً بأن الحروب في كلٍّ من العراق وأفغانستان والتي، بسببها، فقد الآلاف من الأشخاص حياتهم ودُمّرت مدن بأكملها، قد شُنّت باسم الديمقراطية. ونعلم أيضاً بأن البلدان التي تعتبر نفسها ديمقراطية تدير العديد من الاحتلالات العسكرية في العالم، وأشير هنا الى فلسطين، العراق، أفغانستان والى كشمير.



اذاً السؤال الفعلي هنا هو:

ماذا فعلنا بالديمقراطية؟

وإلامَ حوّلناها؟

ماذا يحدث حين تُستهلك الديمقراطية الى أقصى حدّ لحظة تفرغيها من المعنى؟

ماذا يحدث حين تتفشّى مؤسساتها كالمرض الخبيث وتتحول الى شيئٍ خطير؟

وماذا سيحدث الآن لا سيّما وأن الديمقراطية والسوق الحرة قد انصهرتا معاً في جسم مفترسٍ موحد ذات خيال نحيل وواهن يدور تقريباً بأكمله حول فكرة زيادة الربح الى أقصى حدوده؟

هل من الممكن عكس هذه العملية؟ هل يمكن أن يعود شيءٌ متحولٌ الى ما كان عليه من قبل؟



ما نحن بحاجةٍ اليه اليوم هي رؤيا بعيدة المدى.



هل بإمكان الحكومات التي تقوم استمراريتها على مبدأ الكسب المباشر والسريع والآني، تأمين هذه الرؤيا؟

هل يمكن أن تكون الديمقراطية وهي الجواب المقدس لصلواتنا وآمالنا, قصيرة المدى،

والحامي لحرياتنا الفردية وقوت أحلامنا النهمة، نهاية اللعبة للبشر؟

هل يعقل أن تكون الديمقراطية قد نالت الشعبية الواسعة لدى الانسان العصري تحديداً لأنها المرآة لحماقتنا الكبرى لقِصَر نظرنا؟

ان عدم مقدرتنا على العيش كلياً في الحاضر (كما تفعل غالبية الحيوانات)، المصحوبةً بعدم قدرتنا للرؤية بعيداً في المستقبل تجعلنا مخلوقات عجيبة في هيئاتٍ نصفية، لا نحن وحوش ولا أنبياء. ويبدو أن ذكاءنا الرائع قد تخطى غريزة البقاء لدينا، فنحن ننهب الأرض ونعيث فيها خراباً آملين بأن الفائض المتراكم سيعوض علينا هذا الشيء العميق الذي لا يُسبر غوره، وقد فقدناه.



لقد عشت كل حياتي في الهند، هذا البلد الذي يسوّق نفسه على أنه الديمقراطية الأكبر في العالم

(وأقول الأكبر اذ أن التشابيه الأخرى ك"الأعظم" و"الأقدم" قد استُعملت قبلاً). لذا، ومن بعد اذنكم، سأنتقد الديمقراطية من موقعي الخاصّ والمميز.

منذ أسابيع قليلة، أعلنت الحكومة الهندية تعبئة 26 ألف عسكريٍّ لتصعيد عملية عسكرية ضد الماويين "الارهابيين" في الغابات ذات الثروات المعدنية الكثيفة في الهند الوسطى.

ومنذ عشرات السنين وحتى الآن، يقوم الجيش الهندي بالانتشار في ولايات  "ناغالاند"، مانيبور، أسّام وكشمير، حيث يحارب الشعب لنيل استقلاله.

ولكن أن تقوم الحكومة بالاعلان صراحة عن تجييش قلب الهند، فإن ذلك اعتراف رسمي بالحرب الأهلية.

ومن المقرر أن تنطلق العملية، وهي، بفعل الصدفة، التسمية التي تُطلق على الحرب في أيامنا هذه، في شهر أكتوبر/ تشرين الأول، بعد أن تُشرف الأمطار الموسمية على الانتهاء وتغدو الأنهار أقل غضباً والأراضي سهلة الولوج.

أما الشعوب التي تعيش في هذه الغابات، ومن بينهم الماويين الذين يعتبرون أنفسهم راية حرب ضد الولاية الهندية، هم شعوب قبلية والأكثر فقراً في البلد. عاشوا في الأرض لقرون عديدة من دون مدارس، أو مستشفيات، أو طرقات، أو مياه شفةّ.

جريمتهم هي بالشكل قديمة: فهم يعيشون على أرض غنية بالحديد الخام، والبوكسيت والأورانيوم والقصدير، جميعها معادن تريد وضع اليد عليها, بشدة, شركات التعدين الكبرى ومن بينها تاتا وفيدانتا وأسّار وسترلايت.

وكان رئيس الحكومة قد أعلن أن "حكومته موجبة باستغلال ثروة الهند المعدنية لدعم ازدهار الهند الاقتصادي". ووصف الماويين بأنهم "التهديد الأمني الداخلي الأوحد والأكبر للهند".

أما في الصحافة التابعة للشركات، فبات استعمال مصطلحات "محو" و"ابادة" عاماً لدى الحديث عمّا يمكن أن يُفعل بهم.

في اليوم الذي ستدخل فيه القوات الأمنية الى الغابات، لن يعرف أحد كيف سيتم التفريق ما بين الماويين والمتعاطفين معهم من جهة والشعب العادي من جهةٍ أخرى.



وليس من باب الصدفةٍ أن تكون الهند قد تصدت لتحركات أوروبية لدى الأمم المتحدة تطالب باجراء تحقيق دولي في جرائم حرب يشك بأنها ارتُكبت على يد حكومة سيريلانكا في هجوماتها الحديثة على نمور التاميل. واعتبرت الحكومات في هذا الجزء من العالم النموذج الاسرائيلي كطريقة فُضلى لكيفية التعامل مع "الارهاب":

أَخرج الاعلام وأقفل الساحة للقتل.

وبهذه الطريقة لن يقلق احد ويجهد نفسه للتمييز بين من هو "ارهابي" وبين من هو ليس بإرهابي. ومن الممكن أن يتسبب (هذا القتال) بفورة غضب دولية، غير أنها لن تلبث أن تخمد سريعاً.



منذ سنين، تُشن حربٌ أهلية خافتة غير معترف بها. دّمرت قُرى (قتلت) مئات آلاف الأشخاص وأُحرق مخزونهم الغذائي. هاجر الكثير الى المدن حيث يعملون بأجور زهيدة لا تؤمن لقمة العيش. أما الباقون فلا يزالون مختبئين في الغابات، يعيشون من الأعشاب والفاكهة البرية وقد أدركت المجاعة معظمهم.

والآن بدأت التحضيرات لحرب رسمية تتلقى خلالها القوى الأرضية الدعم من طائرات الهيليكوبتر والتوجيهات الجغرافية عبر الأقمار الاصطناعية. يتم تدريب قيادات الألوية في رايبور، عاصمة شاتيسغار وتسيّج الغابة وإقامة الحواجز فيها. توضع القيود على الصحفيين وتسنّ العديد من القوانين التي تُجرم أي نوع من المعارضة ولو كانت سلميةًً في حين يتم توقيف أعدادٍ لا تُحصى من المشتبه بهم وسجنهم من دون كفالة.

واذا قامت حرب أكتوبر/ تشرين الأول، من غير أن نحول دون ايقافها، فستكون الدامجة، أو الزواج اذا صح التعبير، ما بين نوعين منفصلين من الحروب التي لا تزال تشتعل في الهند منذ عقودٍ وحتى الآن: أولاً، الحرب على "الارهاب" التي تشنها الهند ضد شعب كشمير، ناغالاند ومانيبور، وثانياً الحرب للاستيلاء والسيطرة على الثروات الطبيعية.



بعبارة أخرى، حربٌ أصبحت تُعَرّف بمسيرة "التقدّم".



في يناير/ كانون الثاني عام 2008، دُعيت لالقاء محاضرةٍ في اسطنبول بمناسبة الاحتفال بالذكرى الأولى لاغتيال الصحفي الأرمني هرانت دينك. وكان دينك قد قتل في الشارع خارج مكتبه بسبب تجرؤه على اثارة موضوع محظور في تركيا: ابادة الأرمن التي وقعت عام 1915 والتي ذهب ضحيتها أكثر من مليون شخص.

تناولت محاضرتي تاريخ الابادة ونكرانها بالاضافة الى العلاقة القديمة وشبه العضوية ما بين مفهوم "التقدّم" والابادة الجماعية. ما زلت مصعوقة بمفارقة: إن الحزب السياسي في تركيا الذي قاد المجزرة كان اسمه حزب "الاتحاد والترقي".

إن تاريخاً طويلاَ يجمع ما بين الاتحاد والتقدم، أو بحسب المصطلحات الحالية، بين القومية والتطور، وهما الركيزتين الرصينتين لديمقراطية السوق الحرة.



حين كانت "تتقدم" البلدان الأوروبية و"تتنور" في طور دخولها عصر الصناعة، كانت تطور نماذج  جديدة من الديمقراطية وحقوق المواطنين محصورة في "البلاد الأم" و تبيد في الوقت نفسه شعوباً بالملايين في المستعمرات. وفي السنين الأولى من الاستعمار، كانت ابادة الشعوب الأصلية بهدف التحضر، فكرة مقبولة بشكل صريح.

مع نمو الحديث حول حقوق الانسان، بدأ نوعٌ جديد من الازدواجية الأخلاقية يكون مفاهيمه الى ولادة ظاهرة جديدة: نكران الابادة الجماعية.



والآن، حين تلتقي سياسات الابادة الجماعية مع السوق الحرة، بات الاعتراف الرسمي (بالابادة)، أو نكرانها، أو بحسب ما يجري في الآونة الأخيرة،(الاتهام ب) فبركة ابادات ومجازر وهمية، مشروع شركة تجارية متعددة الجنسيات, نادراً ما يتصل بحقيقة تاريخية أو بدليل جنائي, لا مكان فيه للأخلاقية.

والمشروع عملية مقايضة هجومية تنتمي الى مفاهيم المنظمة العالمية للتجارة أكثر منها للأمم المتحدة حيث العملة المتداوَلة هي السياسة الجغرافية والاقتصادية والبشرية، والسوق المتقلبة للثروات الطبيعية، وهذا الشيء الملفت الذي يدعى التجارة المستقبلية، والاقتصاد البحت والقوة العسكرية.

بكلمات أخرى، تُنكر الابادة الجماعية للأسباب نفسها التي تدفع الى مقاضاتها: الحتمية الاقتصادية المشبعّة بالتمييز العرقي/ المذهبي/ الديني/ القومي.

وبمعنىً أكثر صراحةً، يقرر كل من ارتفاع سعر برميل النفط (أو طن الأورانيوم) وهبوطه، والسماح باقامة قاعدة عسكرية، والانفتاح الاقتصادي لبلدٍ معين، حصول الابادة الجماعية أو عدمها.

وفي حال حصلت الابادة، وتم التقرير عنها، فكيف سيُحرَّف هذا التقرير؟

على سبيل المثال، لَم يتم التقرير حقّاً وبشكلٍ وافٍ عن مقتل مليوني شخص في الكونغو.

لماذا؟

وهل كان مقتل مليون عراقي في ظل نظام العقوبات، الذي سبق الاجتياح الأميركي عام 2003، ابادةً؟ (حسب المنسق الانساني للعراق لدى الأمم المتحدة دينيس هاليداي) أو ما "يستحق العناء"، بحسب زعم مادلين ألبرايت، سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة؟

يعتمد الاعتبار على من يسن القواعد.

أهو الرئيس الأميركي؟

أم الأم العراقية التي فقدت طفلها؟



يخبرنا تاريخ المجازر الجماعية بأنها ليست انحرافاً، أو شذوذاً أو خللاً في النظام الانساني.

بل هي عادة قديمة مترسّخة في الحالة الانسانية بقدر ما هو عليه الحب والفن والزراعة.

و معظم القتل ابتداءً من القرن الخامس عشر قُدماً، جزءاً لا يتجزّأ من بحث أوروبا عن "فضاء العيش"، اي المرادف للمصطلح الألماني “lebensraum” بحسب العالم الألماني في علم الجغرافيا والحيوان فريدريتش راتزل.

ابتكر هذا الأخير كلمة “lebensraum” لوصف دافع طبيعي مسيطر في الجنس البشري، ليس فقط لتوسيع محيطه بل أيضاً لضمان القوت والاستمرارية.

وفي حين لم يظهر مفهوم “lebensraum” الا في عام 1901، كانت أوروبا قد باشرت ببحثها عن "فضاء العيش" الخاص بها يوم وطأ كولومبس الأرض الأميركية.

في كتابه "ابيد كل الوحوش"، يحاول سفن ليندكفيست أن يبرهن بأن بحث هتلر عن ال “lebensraum” ، في عالم نحتته الدول الأوروبية الأخرى على قياسها، كان وراء اندفاع النازيين الى الامتداد نحو أوروبا الشرقية ومن ثم نحو روسيا. ووقف اليهود في أوروبا الشرقية وغرب روسيا بوجه طموحات هتلر الاستعمارية. ولذلك، توجب استعبادهم أو تصفيتهم تماماً كما حصل مع الشعوب الأصلية في أفريقيا وأميريكا وآسيا.

اذاً يقول ليندكفيست بأن عنصرية النازيين التي جردت اليهود من حقوقهم الانسانية، ما هي الا نتاج الخليط المألوف، مرة أخرى، ما بين الحتمية الاقتصادية المشبعة (جيّداً) بعنصرية قديمة التاريخ. وهو نتاجٌ تماشى مع التقليد الأوروبي السائد في ذلك الوقت.



واذا تسلحنا بهذه القراءة التاريخية، هل من المنطقي أن نقلق بشأن بلد كالهند، اذا كان على عتبة استهلال ابادة جماعية، وهو يستهل "التقدم"؟ هل من الممكن أن تكون الهند التي تلقى احتفاءً عالمياً باعتبارها أعجوبة التقدم والديمقراطية، في طور استعمار نفسها وعلى حافة ارتكاب الابادة الجماعية؟ يبدو مجرد طرح هذا التساؤل همجياً، واستعمال كلمة ابادة غير مبرر في هذه الفترة من الزمن. و لو عاينّا المستقبل، فسنجد بأن قياصرة التقدم قد صدّقوا دعايتهم وبأن لا بديل عن نموذج التقدم الذي اختارونه. فهم بالتالي مضطرين الى القتل، وبأعدادٍ كبيرة، بغية الوصول الى هدفهم.



اذا نظرتم الى خارطة الغابات في الهند وثرواتها المعدنية، وإلى أماكن منشأ شعب الأديفازي، لرأيتم بأنها متداخلة. مما يعني بأن من حسبناهم يوماً فقراء، هم في الحقيقة الأكثر ثراءً.

وفي حين يحكم الاقتصاد التجاري المعولم قبضته على حياتنا وخيالنا، يتحد المستفدين منه وينسحبون الى الفضاء الخارجي.

ومن فوق، يتطلعون الى الأسفل الى الغابات والأودية النهرية حيث يعيش الفقراء، ويرون شعوباً "فائضين" مستقرين على موارد ثمينة.

فيحتارون في أمرهم ويتساءلون:

ماذا تفعل مياهنا نحن في أنهارهم؟

ماذا يفعل قصديرنا نحن في جبالهم، وحديدنا الخام نحن في أوديتهم؟

خصص النازيون كلمة محددة لوصف الشعوب الفائضين: uberzahligen” “Essen ، أي الأكلة الفائضين.

بعد مراقبته عن كثب للصراع بين الهنود الأصليين ومستعمريهم الأوروبيين في شمال أميركا، يقول فريدريتش راتزل أن "الكفاح من أجل فضاء العيش" هو كفاحٌ مبيد. والابادة لا تعني بالضرورة قتل الشعوب أو ضربهم بالهراوة، أو حرقهم، أو طعنهم بالحربة، أو قتلهم بالغاز، أو بالقنابل أو باطلاق النار عليهم. (باستثناء بعض الأحيان وبالتحديد حين يحاول الشعب القتال، اذ يسمونه عندها "ارهابيي").

تاريخياً، كان نقل الشعب من موطنه، تجميعه كالقطعان وقطع الماء والغذاء عنه، أكثر أشكال المجازر فعاليةً إذ يموت الناس من دون أي عنفٍ ظاهرٍ وغالباً بأعدادٍ أكبر بكثير (من اعداد ضحايا المجازر).

هذا ما حدث بالضبط في أكتوبر/ تشرين الأول عام 1904، يوم أباد الجنرال الألماني أدولف ليبريشت فون تروتا شعب الهيريرو في جنوب-غربي أفريقيا.

ويكتب سفن ليندكفيست: "وضع النازيون نجمةً صفراء على معاطف اليهود وجمعوهم ضمن "محمياتٍ"، تماماً كما حصل للهنود، وشعوب الهيريرو، والبوشمان، والأمنديبيل وكافة أطفال النجوم الذين جُمعوا مع بعضهم البعض. وماتوا من تلقاء نفسهم بعض أن قُطع الغذاء عنهم."



تشير أمرتيا سين، الى أن المجاعة شبه مستحيلة في ظل نظامٍ ديمقراطي. حسناً فلنستبدل المجاعة العظيمة في الصين بسوء التغذية العظيم في الهند. (ونشير هنا الى أن الهند وحدها تحوي ما يفوق ثلث نسبة الأطفال الذين يعانون من سوء التغذية في العالم وعددهم خمسةً وسبعين مليون طفلٍ).



في دانتيوارا، في مقاطعة شاتسغار، التي تحوي أجود أنواع الحديد الخام في العالم، تم اخلاء 644 قرية وتهجير 50.000 شخص الى مخيماتٍ رثّة تابعة للشرطة. اختارت الشرطة الأصغر سناً من بينهم اعطتهم السلاح ودّربتهم ليصبحوا ميليشيا شعبية ماكرة اسمها سلوا جودوم. أما ال300.000 الباقون فهم غير ظاهرين على رادار الحكومة ولا أحد يعرف حقاً كيف يعيشون. وصبغت الشرطة كل من ظلّ خارج المخيمات بوصمة الماويين أو المتعاطفين مع الماويين، الأمر الذي يجعلهم أهدافاً شرعية لعمليات القتل الهندية.



لا تزال قوات الأمن تتمركز بانتظار انتهاء هطول الأمطار.



ومع توافد الأخبار، يبدو أن القتل والموت واغتصاب النساء وهو شكل لا مفر منه في السياسة الحربية، قد بدأ فعلاً.



كيف انتهى بنا الأمر الى هذه الشاكلة؟



منذ عشرون عاماً، في شتاء 1989، شهدنا جميعاً لحظة سقوط حائط برلين وتوحيد هذه المدينة. ولكننا علمنا في الوقت نفسه أن المطارق التي هدّمت الحائط كانت وليدة حرب أخرى تدور في اقاصي جبال أفغانستان الخشنة، حيث انتصرت الرأسمالية بعد جهادٍ طويل على الاتحاد السوفياتي. وفي غضون أشهرٍ من انهيار الاتحاد السوفياتي ووقوع حائط برلين، قامت الهند بعد أن عُرفت تاريخياً بانتمائها الى حركة عدم الانحياز، بقلب مسارها سريعاً وتوحدت كلياً مع الولايات المتحدة ملكة العالم الأحادي الجديد.

فجأةً، تغيرت قواعد اللعبة في الهند بشكلٍ تام. لم يتخيل ملايين الاشخاص وبعضهم من الذين يعيشون في القرى البعيدة وعميقاً في قلب الغابات العذراء، ومنهم من لم يسمع ببرلين أو بالاتحاد السوفياتي من قبل، لم يتخيلوا كيف يمكن أن تؤثر أحداثٌ كهذه وقعت في مناطق بعيدة جداً، على حياتهم. أُلقي الاقتصاد الهندي مفتوحاً أمام الرأسمال العالمي، فُككت القوانين الحامية لحقوق العمال وحلّ علينا عصر الخصخصة والتعديل الهيكلي.

أصبحت اليوم مصطلحات ك "التقدم" و"التطور" مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالاصلاح الاقتصادي وعملية إلغاء القوانين المُنظمة والخصخصة. وأصبحت "الحرية" تعني "الخَيار"، ولها في ماركات العطور أكثر من ما لها في الروح الانسانية.

لم تعد "السوق" هي المكان الذي تزوره لتشتري احتياجاتك، بل أصبحت فضاءً بدون حدود جغرافية، تقوم شركات تجارية مجهولة الأوجه بممارسة أعمالها فيها، بما في ذلك شراء "المستقبل" وبيعه.

أصبحت "العدالة" تعني "الحقوق الانسانية"، أوأحياناً بعض هذه الحقوق.



ان نهب اللغة اغتصاب الكلمات ومن ثمّ اطلاقها كأسلحة واستخدامها لتمويه النوايا وتشويه المعاني الأصلية والتقليدية التي تدلّ عليها فعلياً هي من أشدّ الانتصارات الاستراتيجية ذكاءً في التوزيع الجديد.

وقد سمحت لهم هذه الاستراتيجية بتهميش منتقديهم، وتجريدهم من اللغة التي تساعدهم على توجيه انتقاداتهم، ونبذهم على أنهم "ضدّ التقدم"، "ضدّ التطور"، "ضدّ الاصلاح"، وطبعاً "ضدّ القومية".  تلك أسوأ أنواع الأضداد الممكن اطلاقها.



لمن ينادي بانقاذ نهرٍ وحماية غابة، يجابهونه بالقول "ألا تؤمن بالتقدم؟".

للناس التي غرقت أرضهم في الخزانات والسدود، وتُمحى منازلهم، يسألون "ألديك نموذج بديل للتطور؟".

ولهؤلاء المقتنعين بأن الدولة موجبة بتأمين أسس التربية والصحة العامة والضمان الاجتماعي للشعب، يقولون "أنت ضدّ السوق." ومن غير المختلّ عقلياً ليقف في وجه السوق؟



نحن ككتاب، نجتهد في حياتنا لتقليص المسافة ما بين الفكرة والتعبير، ساعين لإعطاء شكلٍ لأفكارنا الأكثر حميميةً وبدائية.أما لغة التقدم الجديدة هذه فتفعل العكس تماماً: فهي مصَممة على الغش وإخفاء النوايا.هذه اللغة المسلوبة قد تكون حجر الأساس لخرابنا.



خلق عقدين من هذا التطور في الهند طبقة وسطى واسعة مأخوذة بالثراء المفاجىء وبالاحترام الذي ينتج عنه من جهة، وطبقة دنيّة أوسع بأشواط (من الطبقة الوسطى) من جهةٍ أخرى.

جُرّد عشرات الملايين من الأشخاص من ممتلكاتهم وهُجّروا من أرضهم بسبب الفياضانات والجفاف والتصحر الناتج عن الهندسة البيئية الهمجية، ومشاريع البنى التحتية الهائلة، والسدود والمناجم والمناطق الاقتصادية الخاصة. تُروج هذه المشاريع كلها باسم خدمة الفقير، ولكنّها فعلاً ليست الا لتوفير المطالب المتزايدة للأرستقراطية الجديدة.



ان الصراع على الأرض يكمن في قلب الجدل حول تطور الهند.



منذ سنةٍ، صرح وزير المالية السابق في الهند ب. شيدنبرم بأن رؤيته تقضي بجعل 85 في المئة من سكان الهند يعيشون في المدن. لتحقيق هذه الرؤيا، تلزَمه هندسة اجتماعية بمعيار يفوق الخيال. ويعني ذلك استمالة أو حتى اكراه خمسمائة مليون شخص للهجرة من المناطق الريفية الى المدن. هذه العملية هي في طور التطبيق فعلاً وتحولّ الهند سريعاً الى دولة تجبر الأشخاص بقوة السلاح على التخلي عن أرضهم. وضَمَنَ هذا الكابوس المتنكر بهيئة "الرؤيا"، مشروع افراغ الأراضي الشاسعة وثروات الهند الطبيعية، وتركها عُرضة لنهب الشركات الكبرى.



شركات عالمية ناهبة تدعمها حكومة فقدت مرساها بدأت بتخريب جبالٍ وأنظمة مائية، مُرتكبةً ما يُسمى تحديداً بالابادة البيئية.

ففي شرق الهند، تتسبب مناجم القصدير والحديد الخام بتدمير أنظمة بيئية بأكملها، محولةً الأرض الخصبة الى صحراء.

سوف تعاني الهمالايا من عواقب وخيمة لا مفر منها بسبب انشاء السدود العالية المُخطط لها.

في السهول، تسبب السدود على طول الأنهر المزيد من الفياضانات بدل أن تحدها، وتتسبب أيضاً برفع مستوى مياه الأنهر، واتخام التربة بالماء فتفقد الأملاح المعدنية، مما يقضي على رزق الملايين من الأشخاص.

تحولت معظم الأنهر المقدسة في الهند، ومن بينها نهري الغانج واليامونا، الى مصاريف صحية للمياه القذرة والدفق الصناعي. وبات من الصعب على أي نهر ان يكمل مساره ليصب في المحيط.



واستُبدلت ما تبقى من الغذآت الطبيعية الملائمة لشروط التربة المحلية والمناخات المُصغرة، بأخرى هجينة ومعدّلة جينياً ومُشبعة بالمياه تباع وتُشرى، مكوّناتها الأسمدة الكيميائية والمبيدات.  أما طرق الري والتنقيب الهمجي للمياه الجوفية فكلها مرتبطة كلياً بالسوق التجارية.

وفي حين تتحول تدريجياً الأراضي الزراعية الُمستغلة والمُشبعة بالكيميائيات الى أراضٍ مُرهقة وغير خصبة، يرتفع الاستثمار الزراعي، فيقع المزارعون الصغار في أشراك الدين.

خلال السنين القليلة الأخيرة، انتحر أكثر من 180,000 مزارعٍ هندي.

وفي الوقت الذي تعجّ فيه اهراءات الدولة بالمحاصيل الغذائية التي تفنى بعد حين، تترصد المجاعة الأرض الهندية تماماً كما حصل في أفريقيا-جنوب الصحراء الكبرى.



وكأن مجتمعاً قديماً، يضمحل تحت وطأة نظام الاقطاع والطبقات، يُمخض في آلة كبيرة.

ويمزّق المخيض شبكة اللامساواة القديمة، معدلاً البعض منها ومقوياً معظمها.

وهكذا تخثر المجتمع القديم وانقسم الى طبقة رقيقة من الزبد تعلوه الكثير من المياه.

الزبد هي السوق الهندية المؤلفة من ملايين المستهلكين (مستهلكي السيارات، والهواتف النقالة، والكومبيوتر، وبطاقات فالنتاين للمعايدة) مما يثير حسد الشركات التجارية العالمية.

أما المياه فلا فائدة كبيرة منها.

اذ يمكن دفقها في أي مكان، أو احتوائها في خزانات، أو في آخر الأمر تصريفها.

هذا على الأقل، ما يعتقدون به.

لذا لم يفاوضوا واشتعلت في قلب الهند: في شاتيسغار، جاركهاند، أوريسّا وغرب البنغال.



لنرجع الآن الى عام 1989. وكمَثَلٍ قاطع على العلاقة بين "التقدم" و "التطور"،عندما بدأ حزب بهارتيا جناتا اليميني BJP ، وكان وقتها في المعارضة، بشن حملته الشرسة بإسم القومية الهندوسية، أي ما يُعرف أيضاً بال" هيندوتفا". وتزامن ذلك تحديداً مع قرار الحكومة بفتح الأسواق الهندية للمال العالمي. ومشروع الهيندوتفا هو وليد حزب راشتريا سوايامسيفاك سانغ RSS، الجوهر الأيديوليوجي لشركة BJP المهيمنة. تأسس حزب RSS عام 1925 علناً وصراحةً على شاكلة الفاشية الايطالية. وهنا، تظهر صورة هتلر أيضاً كالوحي. واليكم بعض المقتطفات من انجيل حزب RSS وعنوانه "تحديدنا أو تحديد أمّتنا" بقلم أم. أس. غولووكر:



منذ هذا اليوم المشؤوم، يوم وطأ المسلمون أرض هندوستان، وحتى اللحظة الحاضرة، ما فتأت الأمة الهندوسية تقاتل ببسالةٍ لدحض هؤلاء الناهبين. واستيقظت حينها الروح العرقية.



أم:



في سعيها للابقاء على نقاوة العرق والثقافة، صدمت ألمانيا العالم بتطهيرها البلاد من الأعراق السامية: اليهود. وتجلّى الفخر العرقي هنا بأسمى مظاهره... وهو درسٌ لنا لنعتبر ونستفيد منه في هندوستان.



ويملك ال RSS اليوم أكثر من خمسةٍ وأربعين ألف "شاكا"، أي فرع، وجيشاً مؤلّف من عدة ملايين ال"سوايامسيفاك"، أي متطوعين، يبشرون بعقيدته في الهند. وفي طليعة المبشرين، أتال بيهاري فاجبايي، رئيس الوزراء وقائد حزب المعارضة أل. كي. أدفاني، بالاضافة الى ناريندا مودي، الوزير الأول لغوجارات لثلاث دورات. ويضم حزب ال RSS أيضاً أتباعاً غير رسميين، وهم شخصيات كبيرة في الاعلام، في الشرطة، في الجيش، في الوكالات الاستخبارية، وفي الدوائر القضائية والادارية.



عام 1990، سافر أل. كي. أدفاني عبر البلاد مثيراً الكراهية ضدّ المسلمين ومطالباً بهدم مسجد بابري، الذي يعود تاريخ انشائه الى القرن السادس عشر في موقعٍ متَنازع عليه في أيوديا، واقامة معبد رام مكانه. وعام 1992، قامت عصابة مدعومة من أفاندي بهدم المسجد. وفي مطلع عام 1993، ثارت عصابة أخرى في مومباي وهاجمت المسلمين وقتلت حوالي ألف شخصٍ منهم. في ردة فعلٍ انتقامية، أطلقت سلسلة تفجيرات في أنحاء المدينة وذهب ضحيتها 250 شخصاً تقريباً. مما ولّد حالة جنونٍ في المجتمع، عوّل عليها حزب ال BJP ليفوز على الكنغرس عام 1998 ويتبوأ السلطة.

وليس بصدفةٍ أن يتزامن تصاعد الهيندوتفا مع قرار أميركا التاريخي باستبدال الشيوعية بالاسلام كعدوّها الأكبر. وفجأةً، أصبح المجاهدون، أي المسلمون الراديكاليون، "ارهابيين"، بعد أن استقبلهم الرئيس الأميريكي ريغن يوماً بحفاوةٍ في البيت الأبيض وشبّههم بالأجداد المؤسسين لأميركا. ومن ثمّ، كما تعلمون وقعت حرب الخليج الأولى عام 1990. واستحالت الحكومة الهندية من صديقٍ وفيّ للفلسطينيين الى "الحليف الطبيعي" لاسرائيل. واليوم تقوم الهند واسرائيل بتدريبات عسكرية مشتركة، ويتبادلون المعلومات ويدونون الملاحظات معاً حول كيفية ادارة الأراضي المحتلة بالطرق الأفضل.



وبالطبع، وبمجردّ تبوأه السلطة، اعتنق حزب ال BJP مذهب السوق الحرة.



وفي غضون أسابيع من تسلمه الحكم، قاد سلسلة من التجارب النووية الحرارية. وأدخلت حمّى الانتصار القومي التي رافقت هذه التجارب لغة تعنيفية جديدة ومخيفة على الحديث الشعبي السائد. وفي فبراير/ شباط عام 2002، مات خمسةٌ وثمانون حاجّ هندوسي حرقاً في حادثة قطارٍ في طريق عودتهم الى أيوديا. على أثر الحادثة، قام الوزير الأول ناريندرا مودي، رئيس حزب ال BJP في غوجارات، بالتخطيط لابادة جماعية شنّها بحق المسلمين في تلك الولاية. ساعده في ذلك ظهور "فوبيا الإسلام" في جميع أنحاء العالم عقب هجمات 11 سبتمبر عام 2001. ووقفت آليات الجيش في غوجارات جانباً تتفرج على ذبح أكثر من ألفي شخص وطرد 150.000 مسلمٍ من بيوتهم. كانت هذه مذبحة جماعية. ورُغم أن أرقام الضحايا قد لا توازي الحجم المُرعب لنقُل، في روندا أو الكونغو، أُريد لابادة غوجارات أن تكون عرضاً شعبياً ذات أهدافٍ لاشكّ فيها. كانت تحذيراً شعبياً للمواطنين المسلمين أطلقته الحكومة الديمقراطية المفضلة عالمياً. وحتى اليوم، لا يزال مسلمو غوجارات يعيشون في مخيمات تعاني من المقاطعة الاجتماعية والاقتصادية من دون أي أملٍ في تحقيق العدالة في القريب المنظور. ولا يزال  القتلة  وهم من وجهاء المجتمع، أحرار.



وعقب الابادة، مارس ناريندرا مودي الضغوط لاقامة انتخابات مبكّرة. فأُعيد الى السلطة بتفويض شعبي حاسم من أهل غوجارات. وبعد خمس سنوات، كرر نصره وهو الآن وزيراً للمرة الثالثة.



في يناير/ كانون الثاني عام 2009، خلال مناسبة رسمية، قام كل من راتان تاتا (من مجموعة تاتا) وموكيش أمباني (من مصانع ريلاينس)، وهما رئيسا اثنتين من أكبر الشركات في الهند، بتبنّي ناريندرا بحرارةٍ كمرشّحٍ مستقبلي لرئاسة الوزراء.



وهكذا، وبقبلةٍ، أحكموا على العلاقة العضوية ما بين "الاتحاد" و"التقدم"، أو اذا أردتم القول، ما بين الفاشية والسوق الحرة.



أنتهت الانتخابات الهندية لعام 2009 وبلغت تكاليفها ملياري دولار، ما يفوق بقليل ميزانية الانتخابات في الولايات المتحدة الأميركية. وبحسب بعض التقارير الاخبارية، تقرب تكاليفها الفعلية عشر مليارات دولار.



ولنا أن نسأل، من أين يأتي هذا المال كلّه؟



ربح الكنغرس وحلفاؤه، أو الحلف التقدمي المتحد UPA، الانتخابات بأكثرية وثيرة.

في المقابل، ومما يثير التسائل ، خسر أكثر من تسعين في المئة من المرشحين المستقلين.

من الواضح أن الفوز بالانتخابات صعبٌ بغياب التمويل. فليس بمقدور المرشحين المستقلين أن يعدوا الناخبين بإعانات الرزّ، وأجهزة التلفزيون المجانية وأن يشترون الأصوات، وأن يُقدموا على غيرها من الأعمال الخيرية المنحطة التي توصلت اليها الانتخابات. 



وعند معاينة النتائج عن كثب والتدقيق بالعملية الحسابية لها، تلاحظون بأن مصطلحاتٍ ك"وثيرة" و"أكثرية" مخيبة للمعنى أو بالأحرى غير دقيقة برمّتها.

على سبيل المثال، لا تُطبّق حصّة الأصوات المُحصاة من قبل ال UPA في هذه الانتخابات الا على 10،3 في المئة فقط من سكان البلد! وتثير العمليات الحسابية في الديمقراطية الانتخابية الاهتمام الشديد كونها منمقة بذكاء يحوّل أقلية صغيرة الى تأييدٍ ضخم.



عشية الانتخابات، كان هناك اجماع مطلق بين مختلف الأحزاب على مشروع الاصلاح الاقتصادي.واقترح العديد من الأشخاص على سبيل التهكّم أن يشكّل الكنغرس وحزب ال BJP ائتلافاً مع بعضهما البعض... أما الشركات الكبيرة فكانت أكثر المهتمين بالانتخابات العامة الاخيرة، بعد أن اطمأنت الى التعاون "البنّاء" والاجماع ما بين الأحزاب السياسية. فأدارت الحملات الدعائية الباهظة على التلفزيون، وشارك في بعضها نجوم الأفلام البوليوودية ليحثوا الشعب الفقير كما الغني على الخروج للتصويت.

بغض النظر عما اذا كانت النتيجة ايجابية أو سلبية، فقد ضمنت الانتخابات العامة للعام 2009 في الهند قيام مشروع التقدم واستمراريته.

مما لا يعني أن مشروع الاتحاد قد وُضع جانباً.



وعقب اختتام الحملة الانتخابية لعام 2009، دعى فارون غاندي، المبتدىء الضار في حزب بي جي بي، ومتحدر آخر من سلالة نهرو الحاكمة، والذي يبدو ناريندرا مودي بالمقارنة معه سياسياً معتدلاً ورصيناً، دعى الى تعقيم المسلمين بالقوة.

وصرح: "سيُعرف هذا بحصن الهندوسية حيث لن يتجرأ أي مسلمٍ **** (واستعمل هنا كلمة ازدرائية لوصف الاختتان) على رفع رأسه. لن أقبل ولو بصوت مسلمٍ انتخابيٍّ واحد."

فاز فارون غاندي بحملته الانتخابية بفرق هائل على منافسيه، الأمر الذي يدفعك للتساؤل ما اذا كان الشعب دائماً على حقّ؟



غالباً ما تفعل المؤسسات التابعة للديمقراطية الهندية، ألمؤسسات التشريعية، الشرطة، الصحافة "الحرة" وطبعاً الانتخابات، عكس ما هو مفترض منها، أي عكس تطبيق نظام الضوابط والتوازن. وظهرت المحاكم التشريعية  وكأنها في قبضة مصالح الشركات التجارية. أما الإعلام فمدينٌ طبعاً بأكثر من 90 في المئة من مدخوله لإعلان الشركات. وتؤمن هذه المؤسسات ككلّ غطاءً لبعضها البعض بهدف التسويق للمصالح الكبرى للاتحاد والتقدم.



وفي خضمّ هذا المسار، يسود الارتباك والتنافر في اللهجات لدرجة أن الأصوات المتصاعدة التي تُنذر وتُحذر، تصبح جزءاً من الضجة العامة. مما يساهم في تعزيز صورة الديمقراطية المتسامحة، التعددية، الكثيرة الألوان والفوضوية الى حدٍّ ما.

الفوضى حقيقية

وكذلك الاجماع. 

بالحديث عن الإجماع، تذكيرٌ بسيط بمسألة كشمير الحاضرة أبداً، فالإجماع واضح ولا جدال فيه في الهند في ما يتعلق بكشمير. ويمتد الأمر على مختلف القطاعات والمؤسسات بما فيها الإعلام والبيروقراطية والاستخبارات وحتى بوليوود. لا وقت الآن لسرد قصة كشمير، تلك التراجيديا الأبدية. لكنّني لن أسامح نفسي إن تحدثت عن الهند دون أن أذكر كشمير.

بدأ الصراع لنيل الحرية في كشمير عام ،1947 لكنّ المناوشات المسلحة بدأت عام 1989 أي منذ عشرين عاماً. ذهب ضحية هذا النزاع حوالى سبعة ألاف قتيلاً، وتمّ تعذيب عشرات الآلاف كما "اختفى" آلافٌ أيضاً. تعرّضت النساء للاغتصاب وترّملت الكثيرات. إجتاح أكثر من نصف مليون جندي هندي وادي كشمير فغدى المنطقة التي تشهد أكبر حضور عسكري في العالم (علماً بأنّ عدد الجنود الأمريكيين في العراق في قمة الاحتلال بلغ حوالى 165 ألفاً).

ويدّعي الجيش الهندي اليوم أنّه ألغى التشدد في كشمير، ولعلّ هذا صحيح، إنما هل تعني سيطرة الجيش الانتصار حتماً؟

تكمن المشكلة في أنّ كشمير تقع على الخطوط الخاطئة أي في منطقة زاخرة بالأسلحة على شفير الغرق في الفوضى العارمة، كما أنّ النضال نحو الحرية في كشمير غارق في دوامةٍ من النزاعات الايديولوجية الخطيرة : القومية الهندية (الشركات بالإضافة إلى الهندوسية، تختبئ في ظل الامبريالية)، والامبريالية الأمريكية (فرغ صبرها بسبب الاقتصاد السريع النمو)، ونظام الطالبان الإسلامي الذي ظهر من جديد من العصور الوسطى (ينتشر بسرعة على الرغم من وحشيته المجنونة لأنّه يقاوم الاحتلال الأجنبي). وتتصف كل من هذه الايديولوجيات بقساوة تتراوح بين الإبادة الجماعية والحرب النووية. أضف إلى ذلك، الطموح الامبريالي الصيني العدواني الأشبه بروسيا، والمخزون الهائل من الغاز الطبيعي في منطقة بحر قزوين والأخبار المشاعة على الدوام حول الغاز الطبيعي، والنفط واليورانيوم في كشمير ولاداخ، فتحصل بذلك على الوصفة المناسبة لحربٍ باردة جديدة (وهي كما الحرب الأخيرة، باردة بالنسبة إلى البعض وحامية بالنسبة إلى البعض الآخر).

من المقدّر أن تصبح كشمير صلة الوصل التي من خلالها ستتسلل الفوضى المستشرية في افغانستان وباكستان إلى الهند حيث سيقتحن الغضب في نفس مئة وخمسين مليون مسلم هندي تمّ تعنيفهم وإذلالهم وتهميشهم. وقد أعلنت عن ذلك الاعتداءات الإرهابية التي كان أبرزها اعتداءات مومباي عام 2008.

ساهمت الحلول الحربية التي اعتمدتها الهند لمعالجة الاضطرابات في كشمير، في تفاقم المشكلة وترسيخها في أعمق الأعماق.

لعلّ الاستعارة الأنسب لوصف جنون أيامنا هذه هي قصة جبل سياشين الجليدي، أرض المعركة الأعلى في العالم حيث انتشر آلاف الجنود الهنود والباكستانيين في موا جهة الرياح الثلجية والبرد القارس الذي يصل إلى 40 درجة تحت الصفر. ومن بين المئات الذين ماتوا في ذلك المكان، عدد كبير قضى حتفه من جراء الصقيع وحروق الشمس. اما اليوم فأصبح الجبل الجليدي مكباً للنفايات تتكوم عليه بقايا الحرب وآلاف القذائف وبراميل الوقود الفارغة، والأحذية القديمة، والخيم، وكل أنواع النفايات التي يخلّفها الإنسان عقب خوضه الحرب. بقيت تلك المخلفات على حالها وحافظت عليها الحرارة المنخفضة لتصبح ذكرى لغباء الإنسان. أنفقت الحكومتان الهندية والباكستانية مليارات الدولارات على الأسلحة والمسائل اللوجستية الخاصة بالحروب على المرتفعات، وبدأت ساحة المعركة بالذوبان. امّا اليوم، فقد تقلّص حجم الجبل إلى النصف تقريباً. ويساهم أولائك الذين يعيشون حياةً رغيدة في الجهة الأخرى من العالم بذوبان الثلوج أكثر من المواجهات العسكرية. وهم أناس طيبون يؤمنون بالسلام وحرية التعبير وحقوق الإنسان؛ يعيشون في أنظمة ديمقراطية مزدهرة لا تأبه حكوماتها لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة فيما تعتمد اقتصاداتها بشكل كبير على تصدير الحروب وبيع الأسلحة إلى بلدان كالهند وباكستان (وروندا والسودان والصومال وجمهورية الكونغو والعراق وافغانستان... واللائحة تطول). علاوةً على ذلك، سيتسبب ذوبان الجبل الجليدي بفيضانات كبيرة في شبه الجزيرة ما سيؤدي إلى جفاف شديد يؤثر في حياة ملايين الأشخاص. وسيمنحنا ذلك المزيد من الأسباب للقتال. وسنحتاج إلى المزيد من الأسلحة. ومن يعرف، قد يكون ذلك النوع من الثقة الاستهلاكية ما يحتاج إليه العالم لتخطّي الركود الراهن. وعندئذٍ، سيحصل كل من يعيشون في ظلّ الأنظمة الديمقراطية المزدهرة على حياة أفضل فيما يذوب الجبل الجليدي بسرعة أكبر.



فيما كنت أحاضر أمام حضور متوتر في إحدى جامعات اسطنبول (وسبب التوتر إستعمالي لكلمات مثل الوحدة، والتقدّم، والإبادة، والأرمن التي، عند جمعها في حديث واحد، تُغضب السلطات التركية)، رأيت راكيل دينك، أرملة هرانت دينك، تجلس في الصف الأمامي وقد ذرفت الدموع طوال فترة محاضرتي. وعندما انتهيت، عانقت

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced