غارثيا لوركا ومصرعه
نشر بواسطة: Adminstrator
الجمعة 22-10-2010
 
   
حميد مشهداني من برشلونة
في بغداد، وفي بداية السبعينات كان “فيديريكو غارثيا لوركا” واحدا من رموز أحلامنا الشابة، فبين 1970 و1976 قدمت معظم مسرحياته على قاعات معهد و أكاديمية الفنون الجميلة، أتذكر منها مسرحية “ماريانا بينيدا” التي أخرجها ولحن أغانيها “فيصل المقدادي” وأخرى قدمها كمونولج “أسماعيل عبد الزهرة” على قاعة مسرح معهد الفنون، وهي “بيت بيرناندا البا” بالاظافة الى العديد من طلاب هذين المؤسستين من المسرحيين الذين اختاروا مسرحيات “لوركا” كأطروحات لتخرجهم ولا تحضرني أسمائهم الان للاسف.
كان “لوركا”من أول ضحايا الفاشية التى كانت في صعود بداية الثلاثينيات، فهو اغتيل بعد اقل شهر من العصيان العسكري الذي قاده “الجنرال فرانكو” من المغرب ضد الجمهورية الديموقراطية الاسبانية، فبعد الاشاعات و الاشارات الى قرب الانقلاب وعودة الديكتاتورية كانت الحياة السياسية والاجتماعية في العاصمة “مدريد” كانت مرتبكة جدا، فذكرى ديكتاتورية الجنرال ”بريمو دي ريفيرا” كانت ما زالت طرية في أذهان الديموقراطيين الاسبان، الذين دحروها في انتخابات شرعية قبل 6 سنوات.
هنا ارتكب “لوركا” خطأ تراجيديا كما في العديد من قصائده، فهو تصور ان سقوط “مدريد” كان وشيكا، فقرر مسرعا العودة الى “غرناطة” حيث عائلته، وأصدقاؤه وشهرته، متخيلا بأنه سيكون أكثر أمانا. ولكنه لم يكن ليعرف ولا أحد كان يعرف ان اول مدينة أسبانية حوصرت وسقطت في أيدي الفاشيين خلال أيام كانت “غرناطة” هو الذي كان يحلم بحمايتها، هو الذي كان من أشهر شعرائها في اسبانيا وفي العالم كله، كان على رأس القائمة السوداء التي اصدرها الحاكم العسكري الجديد والتي تأمر بالفاء القبض على كل من تعاونوا مع الجمهورية وأول بيت اقتحم في “غرناطة” كان بيته في بستان “سان فسنته” في مشارف المدينة، ولكنه تمكن من الهرب ولجأ في بيت الشاعر الشاعر الشاب “لويس روساليس” الذي كان “لوركا” قد ساعده كثيرا في نشر فصائده الاولى في في مجلة شعرية كان يصدرها لوركا في غرناطة لويس روساليس، 1910-1992 حصل على جائزة سيرفانتيس في عام 1982”وهذا كان ينتمي الى عائلة ذات مستوى اجتماعي رفيع معروفة بتدينها الكاثوليكي تعيش في منزل كبير وسط “غرناطة”، والاخ الاكبر كان واحدا من كبار قادة حزب “الكتائب الاسبانية” الذي دعم الانقلاب الفاشي، ولكن حب “لويس” لشاعرنا جعله يغامر في اخبائه ببيت العائلة مما وضع الاخ الكتائبي في حيرة من أمره، فهو الذي كان يقود فرق الموت كل فجر ليصطاد الجمهوريين، ولكن العلاقة بين عائلة “لوركا“ وعائلته كانت قديمة وحميمة، مما اضطره أخفاء هذا السر القاتل، وفي بيت روساليس كانت العائلة هذه تعتبره ابنا اخر بجانب ابنائها المتعددين حيث شعر “لوركا” بالامان وكان يعزف على البيانو أخر الحانه، وكتب أخر قصائده التي أحتفظ بها “لويس” والتي نشرت بعد عقود من اغتياله.
قبل مغادرته “مدريد” بأيام كان هاجس يؤرقه وكأنما شعر بقرب نهايته، وقرر زيارة كل اصدقائه، فهو حضر أحتفالا تكريميا ل”رافائيل البرتي” و الشاعر “لويس ثيرنودا” و المسرحي المعروف “فايي دي انكلان” وقرأ مسرحيته ”بيت بيرناندا البا” وفي يوم 11 تموز يحضر حفلة عشاء في “منزل الازهار” مع “بابلو نيرودا” مع العديد من الشعراء والفنانين. وبعد يومين ازداد قلقه فزار أستاذه القديم “رودريغز أسبينوزا” طالبا النصح، وهذا أكتفى بشراء بطاقة سفر الى “غرناطة” معتقدا انه الصواب، وأخر من زاره “لوركا” كان “خوسيه بيرجامين” أحد أعمدة جيل ال27 الذي تصور ان لوركا في قراره هذا أختار طريق الامان، ولكنه كان مخطئا ايضا. فبعد اقل من ثلاثة أسابيع، وبسبب الوشايات أعتقل الشاعر وقيد الى مقر الحكومة المدنية في يوم 16 اب، وبعد يومين وفي فجر ردئ اعدم بشكل عنيف وألقي في حفرة، أو مقبرة جماعية. خلال يومي أعتقاله حاول الموسيقار الغرناطي، العالمي “مانويل دي فايا” إنقاذه لانه كان من أكثر شخصيات المدينة احتراما بسبب شهرته العالمية، وكذالك شخصيات أخرى من المتعاونين مع الانقلاب حاولت التوسط لانقاذه، لكن اللعنة حلت على الشاعر، وهذا كان قدره، قتل غدرا حتى قبل أن تعلن الحرب الاهلية وحتى قبل وصول “فرانكو” من المغرب، فصار من اول شهداء ذالك الزحف الفاشي الذي زرع القارة الاوربية بالوحشية والقسوة.
من الصعب جدا تحليل عالم الشاعر المعقد في بضعة سطور، أو صفحات، فهناك عنصر أضافي وهو شعبيته، لا أعني فقط على مستوى المثقفين وفقهاء الشعر فلوركا كان معروفا ومحبوبا حتى من قبل الاسبان الاميين في ذالك الوقت، فهو في شعره الطليعي والمعقد امتطى الاسطورة الشعبية وجعل منها مادة اساسية في إبداعه، وكتب العديد من القصائد التي كتبت ولحنت كقصائد شعبية ما زالت تغنى الى يومنا هذا.

أغنية الفارس

في القمر الاسود
لقطاع الطرق
تغني المهاميز
اه، حصانا أسود
الى أين تحمل فارسك ميتا؟
المهاميز الصلبة
لص الطرق الساكن
الذي فقد الجمته
حصانا باردا
كما عطر وردة السكين
في القمر الاسود
تقطر دما جوانبها
جبال “مورينا”،
اه، حصانا أسودا
الى أين تحمل فارسك ميتا؟


لوركا وبونويل ودالي وآخرون

بعد مقتل الشاعر والمنع البات حتى بذكر أسمه خلال النظام الفاشي، صار “لوركا” اسطورة حتى بين اعدائه وفي كل جهات الارض ترجمت قصائده وقدمت مسرحياته رغم ان إنتاجه الابداعي لم يكن ليغطي الا سنوات قليلة، فهو أغتيل قبل ان يكمل الاربعين من عمره، لكن أنتاجه كان غزيرا بين الشعر والمسرح والموسيقى، والرسم ايضا.
كتبت في مقال سابق حول الذكرى المئوية للشاعر “ميغيل ايرنانديث” عن لقائي الصدفي مع “رافائيل البرتي” في عام 1978 في مساء جمعة في “مدريد”المزدحمة، في ذالك المقال أشرت فقط الى ما تحدث به عن “ايرنانديث” شهيد الفاشية الاخر. ولكن في الواقع كان الحديث عن “لوركا” في اكثره، وذكر لي كيف انه كان واحدا من اخر من رأى لوركا قبل اغتياله، وكان يعرف الخطأ القاتل الذي ارتبكه الشاعر مستعجلا سفره الى “غرناطة” اول يوم الانقلاب العسكري على الجمهورية وقال “لم يكن في ذهن احد منا ان غرناطة ستسقط بيد الانقلابيين بعد أيام قليلة فهي سقطت ببيان اذاعي بسيط، حينها ارعبتني فكرة وجود “لوركا” في غرناطة، وخشيت الاسأ وهذا ما حدث". هذا ذكرني بالانقلابات العسكرية العربية التي دائما ما كانت تبدأ ب”بيان رقم واحد...و الخ”.
بينما كنت اقود سيارتي المكشوفة وشعر “البرتي” الفضي يتطاير، غنينا معا قصيدته التي لحنها الموسيقي الرائع “باكو ابانييث” وكانت شائعة جدا في ذالك الحين وهي،

أغنية الذي لم أذهب الى “غرناطة” أبدا

أي بعد بين بحار، جبال وحقول
الان، شموس أخرى تنظر رأسي المشيب
أبدا لم أر غرناطة
أبدا لم أر غرناطة
رأسي المشيب، والسنوات الضائعة
أريد لمس، الدروب الممسوحة
أبدا لم اذهب غرناطة
أبدا لم اذهب غرناطة
أعطوا يدي غصنا اخضر الضوء
ولجاما قصيرا، وحصانا طويل العدو
أبدا لم ار غرناطة.


لوركا، ونيرودا
في مذكراته يكتب “نيرودا” عن لقائه مع “لوركا” فالشاعر الشيلي وصل عاصمة الارجنتين “بوينوس ايريس” في شهر اب 1933 وفي نفس الوقت تقريبا وصلها الشاعر الاسباني ليقدم واحدة من اروع مسرحياته ”أعراس الدم” ويشرح كيف التقى به والتعرف عليه شخصيا لاول مرة. وهنا اتذكر اخر جملة يقولها “همفري بوغارت” للظابط الفرنسي في فيلم “كازابلانكا” وصارت تعبيرا شعبيا خلال الستين السنة الاخيرة وهي “لوي، أشعر ان هذا سيكون بداية لصداقة رائعة” وهذا ما حدث بين الشاعرين فصداقتهما أستمرت بشكل وثيق الى حين موت الشاعر. وحينما دعيا الاثنان الى حفل عشاء تكريمي نظمه “نادي القلم” في فندق “بلاثا” هنا فاجأ “لوركا “ الشاعر الشيلي بفكرة استغلال هذه المناسبة الفريدة لتقديم خطابا مشتركا لاحياء ذكرى شاعرهما المفضل النيكاراغوي “روبين داريو” على الليمون وهذا تعبير صعب الترجمة وحتى “نيرودا” لم يكن يعرف معناه، ، فقال الشاعر الاسباني “مصارعان أثنان يصارعا ثورا في نفس الوقت وقماش احمر واحد بين الاثنين، وهذا من اخطر التجارب في مصارعة الثيران، لذالك لايحدث الا مرتين أو ثلاثة كل قرن، ولا يستطيعه الا اذا كان المصارعان أخوين، أو في شراينهما يجري نفس الدم، هذا يسمى المصارعة على “الليمون” وهذا ما سنقوم به هذه الليلة” وهذا ما صار، فأمام أكثر من 100 من الشعراء والكتاب نهض “نيرودا” من طرف القاعة ليقول، ”سيداتي” من الطرف الاخر نهض “لوركا” ويقول”سادتي..” و هكذا تقاسما الخطاب الذي كتباه معا وكأنه عمل مسرحي ارتجالي، ولكنه كان في جوهره تخليدا لشاعر عظيم مثل “روبين داريو” الذي اعتبر اب الشعر الحديث في اللغة الاسبانية.
ولد “فيديريكو” في عام 1899 في قرية “فوينتي باكيروس” وهي قرية تقع في ضواحي غرناطة، وعانى موتا عنيفا في 19 اب 1936 بعد ايام من الانقلاب العسكري وسقوط “غرناطة” نشر اول ديوان له في 1921 سماه “كتاب القصائد”، درس الفلسفة والادب، والحقوق، ومنذ 1919 انتقل الى “مدريد” ليسكن “دار أقامة الطلاب” الشهيرة في نموذجيتا التقدمية حيث تعرف على “سلفادور دالي” و المخرج السينمائي العالمي “لويس بونويل” هذه الدار كانت واحدة من اهم مراكز التنوير والثقافة في بداية القرن العشرين، وملتقى كل مثقفي اسبانيا.
في عام 1930 كان في قمة الشهرة كشاعر ومسرحي وسافر الى العديد من بلدان اميركا اللاتينية مقدما مسرحياته بنجاح ساحق. وبعد اعلان “الجمهورية الاسبانية” وسقوط الملكية في صناديق الاقتراع ديموقراطيا، أسس فرقته المسرحية “لاباراكا” الجامعية حيث قدم العديد من اعمال المسرح الكلاسيكي الاسباني في ابعد وأعمق زوايا اسبانيا، في تلك الاثناء كتب أجمل قصائده في ديوان “رومانس الغجر” الذي جعله في قمة الشعر، وصار من أكبر الشعراء الغنائيين الاسبان على مدى القرن الماضي، فهو استخدم التراث والتقاليد الشعبية كأداة أساسية لشعره الطليعي ذو الرمزية الكثيفة، مستفيدا من معرفته العميقة بالحياة الاندلسية الغنية بالتراث الشعبي من احتفالات دينية الى ثقافة الغجر، وغناء موسيقى ال”فلامينكو” الذي عشقه الشاعر، وهو كان من اول الشعراء الاسبان الذين أغنوا قصائدهم من التراث الشعري العربي الاندلسي. ولكن ما توجه فعلا كشاعر مسرحي هو كتابته مسرحية “أعراس الدم” التي ساهم فيها أعظم الممثلين المسرحيين في تلك الفترة مثل “مارغاريتا شيرغو” الكتلانية، وهذه الاخيرة قدمت معظم مسرحياته مثل “يرما” و”دونيا روسيتا العازبة” و”بيت بيرناندا البا” وهذه كانت الاخيرة حيث قدمت في الارجنتين بعد وفاته.
رغم المنع الرسمي لذكر أسمه خلال 4 عقود كان لوركا وشعره على شفاه الاسبان سرا، وخارج اسبانيا كان أسم الشاعر يتألق يوما بعد يوم. فهو ترجم وقدم وكتب عنه في كل لغات العالم.


 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced