الأنستليشن أو الفن التركيبي مابعد الرسم وما بعد التشكيل
نشر بواسطة: Adminstrator
الجمعة 29-10-2010
 
   
نزار الراوي

يصف مصطلح الانستليشن أرت أو فن التركيب العمليات الفنية والتشكيلية التي تنتج تركيبات شكلية لها وجود فيزيائي غالباً ما يقوم على تداخل مكاني مع موجودات المحيط الواقعي للعمل، لذا فأن معظم أعمال الفن التركيبي يتم بنائها وتنفيذها داخل فضاء القاعات الفنية أو المتاحف أو في الفضائات الخارجية على نحو مباشر، حيث يصعُب تحريكها اذا ما نُفذت داخل استوديوهات الفنانين، وهي تمثل طائفة واسعة من الممارسات البنائية والتكوينية والتي يتمخض عنها نتاجات فنية هائلة التنوع، وقد تشمل أعمال التركيب خامات ووسائل عمل متعددة مثل مزج الوسائط، وفنون الفيديو، والتراكيب الهندسية، والانشاء الصناعي، بالاضافة للتأثيرات الضوئية والصوتية أحياناً، وهو من أنواع الفن المفاهيمي، وقد ظهر هذا الاصطلاح في فترات متأخرة من سبعينات القرن العشرين على الرغم من جذوره الأقدم والتي تتمثل بوضوح في أعمال مارسيل دوشامب خصوصاً عمله الشهير (المبولة) والتي اقتناها من السوق المحلية ومهرها بتوقيع رينت وهو اسم الشركة المصنعة لها، وقام بارسالها الى معرض نيويورك للمستقلين سنة 1917 مطلقاً على عمله هذا اسم (النافورة) كأحد أعماله التي تنتمي الى ما اسماه حينها بالفن الجاهز.
لكن مصطح الانستلشين آرت لم يتم تداوله على نطاق واسع الا متأخراً لتوصيف أعمال الفنانيين الشباب الذين غزوا المتاحف وصالات العرض العالمية بأعمالهم التي كانت تتصف بالجرأة وروح التغيير والغرابة في كثير من الأحيان؛ من أمثال البرازيلي سيلدو ميريل، المكسيكي جابريل أوروزكو، الانجليزي مايكل ليندي، والأمريكي مايك كيلي والايرلندي كريغ مارتن وآخرون، حيث بدأت هذه الموجة بانتزاع اعتراف المسابقات الفنية العالمية والمتاحف الشهيرة منذ أوائل التسعينات الى أن أثبتت حضورها المتميز من خلال فوز هؤلاء الفنانيين بعدد كبير من الجوائز العالمية مما لفت أنظار الاعلام الفني اليهم والى أعمالهم التي بدأت بالرواج في أهم عواصم الفن كلندن ووروما وباريس ونيويورك وطوكيو.

أما عربياً فما تزال الظاهرة أو النوع الفني يفتقر الى المقبولية بين أوساط التلقي والتعاطي ويُعاني فنانوه نوعاً من الكساد التسويقي والثقافي على حدٍ سواء، وذلك لعدة أسباب منها عدم مواكبة غالبية المؤسسات الفنية العربية والقائمين عليها لمجريات الفن في العالم، ورسوخ معايير كلاسيكية أصبحت بالية في ذهنية السوق التشكيلية في المنطقة العربية، بالاضافة لقدم مناهج التعليم الفني في معظم المؤسسات التعليمية المعنية بتدريس الفنون، مما سبب إحجاماً ثقافياً واعلامياً عن هذه الفنون التي توصف بأنها تقدمية تسعى لتعميق دور الفن في معالجة مواضيع ترتكز الى المخيلة من جهة والتفسير الكمي للظواهر الحياتية من جهة أخرى مستفيدة من التقنيات الأحدث التي يتعامل معها الانسان يومياً.

وهذا لا يعني بالضرورة وجود قطيعة عربية كاملة مع هذا النوع الفني، فهنالك فنانيين عرب غير قلائل يسعون في معظم الدول العربية للعمل ضمن مفهوم الفن التركيبي تحديداً او الفن المفاهيمي على نحو أشمل، ولكن ضمن ظروف تلقي وتسويق صعبة نسبياً، حيث أنهم يواجهون عدم تفهم واضح لأعمالهم، حتى أن معظم نقاد الفن العرب لم يتعرضوا لهذه الأنواع الفنية الا عرضاً، وربما تكون العشر سنوات القادمة هي الفترة الأكثر تقبلاً لفنون التركيب في المنطقة العربية؛ ولعل فوز الفنان العراقي نديم كوفي مؤخراً بجائزة مهمة في دبي عن عمله (حبات الرمان) والذي يقترح أن ينفذ بحجم كبير جداً في أحد ساحات مدينة دبي يُعد مؤشراً على قرب إختمار وعي ثقافي عربي بهذه الأنواع الفنية وبدء تكون رؤية تسويقية لنتاجاتها غير التقليدية في المدن والمتاحف والصالات العربية.

وفي عودة لأهم المفاهيم التي يقوم عليها الفن التركيبي أقول أن هذا الفن يسعى للتقليل من أهمية المعايير الكلاسيكية التي سادت الفنون البصرية لقرون طويلة مستعيناً بالرياضيات كمنطق بصري هذه المرة، حيث يتم التخلي عن الأوهام البصرية لمصلحة الكتل الحقيقية التي تتعايش ضمن بيئة العرض التشكيلي، مما يولد تشكيلاً جديداً يمكن تسميته ما بعد التشكيل النمطي، فنرى تراجعاً ملحوظاً للرسم والتلوين ازاء عمليات تركيبية تستعين بالشواخص البصرية والمكونات النحتية وغالباً الاضاءة الطبيعية أو حتى الصناعية وفي بعض الأحيان الصوت كعنصر مكمل للعمل الفني، مما يحيلنا الى مناقشة الخامات الداخلة في العمل الفني كعناصر رئيسية ذات وجود عضوي لا كسطوح حاملة أو صبغات موحية أو ظلال خادعة للعين، ومن هنا أقول أن الفن التركيبي يمتاز بصدقية مميزة تجعله فن العصر بلا منازع، وهذا لا يعني دعوة للتخلي عن الأنوع الأخرى أو نبوءة بزوالها –لا سمح الله- حيث أن الفنون لا يلغي أحدها الآخر ولا يقوضه، بل يزيده عمقاً وثراءاً ويغير وظائفه وتقنياته نحو إمتلاك خصوصية واضحة وهوية ذات ملامح أكثر تحديد، فكما لم تلغي السينما المسرح، وكما لم يزول الرسم اثر ظهور الفوتوغراف، وكما جاورت المدونات والصحف الالكترونية الصحافة الورقية، كذلك هذا الفن يجاور الرسم والنحث والفنون التشكيلية الأخرى بقوة ووضوح، وهو اليوم يتصدرها من حيث قدرته على هضم المتغيرات السريعة التي تعصف بالانسان المعاصر على يد التكنلوجيا وثوراتها التي لا تهداء.


ولمزيد من التحليل الثقافي لهذه الفنون أقول انها تسعى في الغالب الى تغيير النظرة السائدة الى المتلقي من كونه عين تقوم بعملية ابصار يحيل الى ذاكرة، الى كونه منظومة متكاملة من الحواس مرتبطة بادراك حسي لا يعول على ذاكرة وتجارب مسبقة، فمعظم الأعمال في هذه الفنون تسعى لتأسيس ادراك حسي متكامل لدى المتلقي غير مسبوق يُنتج مواقف وجدانية جديدة تعمل على تحريك مشاعره أو أفكاره باتجاهات حرة، وتعمل معظم الأعمال الفنية في هذا المجال على زعزعة مكامن الاستلام التقليدي لدى المشاهد مما قد ينتج في كثير من الأحيان ما يعرف بـ (صدمة التلقي) المسؤولة عن فتح آفاق فكرية جديدة تكاد تكون بكر شديدة الخصوبة، ولا تُملي على المتلقي أفكاراً بعينها ولا تستنهض لديه مواقف مسبقة أو ردود أفعال عاطفية أو فكرية جاهزة، هذا ما يتناسب تماماً مع موجات التحرر الفكري التي غزت العالم والتي تلت موجات الأيدلوجية الدينية والسياسية التي كانت تخيم على شعوب الكرة الأرضية إبان خضوع معظم تلك الشعوب لثنائية القطبين التي تناسلت عن سنوات الحرب الباردة رجوعاً الى أٌقدم العصور والتي لم تخلو يوماً من كون الأنسان مطالباً باتخاذ مواقف معلبة وجاهزة على الدوام لاثبات شدة ولائه وانظباط قيمه بما تملي عليه انتمائاته الوطنية وبالتالية السياسية بحسب الفهم الكلاسيكي البائد للوطنية.

وليس بعيداً عن هذا الفهم والتطبيق ما حدث من توالد أجناس وأشكال فنية في معظم أنواع الفنون والآداب فمن خلال هذا الفهم يمكننا الحديث ثقافياً عن فكرة النص المفتوح في الأدب الحديث، أو مسرح الصورة، وسينما الواقع، وحتى موجات العمارة التفكيكة، والتصميم البيئي، وموسيقى الشارع الى آخر ما أنتجته تيارات ما بعد الحداثة بجموحها الساعي لتفتيت الحواجز التقنية لأنواع الفنون وفتح آفاق الانتاج والتلقي كمشروع فني نهضوي يعيد الانسان (المتلقي) الى موقعه الأهم ازاء العمل الفني ذلك الموقع الذي يجعله مشاركاً فاعلاً في انتاج المفاهيم والقيم الجمالية الادراكية وليس مجرد مُستلم لما يُريد الفنان املائه عليه، كذلك تُعيد هذه الفنون انتاج الفنان من خلال تحريره من منظومة العمل التقني المقنن لتطلقه في فضاءات رحبة من الخيارات التنفيذية تحقياً لرغباته الفنية في التوصل الى أعمق قيم الجمال غير المتداولة سلفاً.

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced