رغم أن مئات الحسابات ووسائل الإعلام الحزبية هاجمت المتظاهرين مطلع حزيران الماضي، ووصفت تصرفهم بإجبار مدير صحة ذي قار على الإستقالة بأنه "غير قانوني"، إلا أن أحداً من القوى الرئيسية في البلاد، لم يجب على السؤال الذي كان يردده الشبان، وهم يحملون صور ضحاياهم الذين سقطوا بالرصاص إبان حكم رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي.
عاد عبدالحسين الجابري إلى منصبه في اليوم التالي، ثم أقاله المحافظ ناظم الوائلي في وقت لاحق، لكن متظاهراً كان قد وقف أمام كاميرات الفضائيات في صبيحة "الإجبار غير القانوني" ذاك، ببذلة رياضية مهترئة تعكس مستواه المعيشي، وأطلق السؤال الذي تجاوزه الجميع:
"لماذا لا يُفتتح المستشفى التركي؟!"
من أجل الإجابة عن أحد "أكثر الأسئلة غموضاً" تحدث "ناس" إلى مسؤول كبير من محافظة ذي قار، شغل طيلة سنوات عدة مناصب مكنته من الإطلاع على "القصة الكاملة" لما يسميه "الإفشال المتعمد".
اشترط المسؤول في حديثه لـ "ناس" عدم كشف هويته للعلن، مؤكداً إنه "مستعد لكشفه هويته وما لديه من (كومَة) وثائق ومواجهة أيٍ من الجهات التي سيتحدث عنها إذا طلبت ذلك"، إلا أنه "يفضّل أن تأخذ المعلومات التي سيدلي بها طريقها نحو التحقيق والمتابعة، وليس إلى التراشق السياسي في حال كشف عن هويته وهو المسؤول البارز في إحدى القوى السياسية الرئيسية".
ويسرد المسؤول تفاصيل مؤرّخة حول عشرات الاجتماعات والزيارات طيلة السنوات الماضية، كما يقدم -في نهاية حواره الذي امتدّ أكثر من ساعة مع "ناس"- ما يعتبره السبب الرئيس للإخفاق، وهو الطريقة التي تم التعاقد فيها على تشييد المستشفيات الخمس بعقد واحد لا يمكن فصله، كما يحمّل المسؤولية لوزراء الصحة المتعاقبين، ولا يستثني الشركة التركية من جزء "يسير" من مسؤولية الإخفاق، ويوجه خطابه إلى الجهات الحكومية والتحقيقية بعبارات مقتضبة "بلا استدعاء لوزراء الصحة والتحقيق معهم.. ستبقى لعنة المستشفيات التركية تدور في حلقة مفرغة".
قرار الإنشاء
مطلع شهر كانون الأول من العام 2008، أعلن صالح الحسناوي، وزير الصحة في حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، التعاقد من أجل تشييد 10 مستشفيات في عموم المحافظات، منها 5 مستشفيات 400 سرير، عن طريق شركة يونيفيرسال التركية في محافظات ميسان وبابل وكربلاء وذي قار والبصرة، فضلاً عن توقيع عقود مع شركات اميركية والمانية واسترالية لبناء 5 مستشفيات أخرى، كما أكد الحسناوي حينها إن وزارته "تتباحث" من أجل بناء 7 مستشفيات إضافية، و7 مستشفيات للولادة، ليكون المجموع 24 مستشفى، لم يرَ أي منها النور حتى بعد نحو عقد من الإعلان، وحين اندلعت احتجاجات حزيران الماضي في ذي قار، كان المستشفى التركي عالقاً منذ سنوات عند نسبة إنجاز تفوق 90 بالمئة، دون أن يتمكن مواطنو المحافظة من فهم سبب عدم اكمال النسبة اليسيرة من الإنجاز وافتتاح المنشأة الصحية في المحافظة التي شهدت فوضى صحية بعد تفشي وباء كورونا.
النص الكامل للحوار:
الضربة الأولى: قرار 347 لسنة 2015
يشير المسؤول في حديثه لـ"ناس" إلى القرار 347 للعام 2015، والذي تم بموجبه إيقاف تمويل عدد من المشاريع، بعد أن ورثت حكومة رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي من سابقتها حكومة رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، دولةً يسيطر تنظيم داعش على ثلث مساحتها.
يقول المسؤول "قرار مجلس الوزراء رقم 347 أوقف تمويل عدد كبير من المشاريع، من أجل مواجهة انخفاض اسعار النفط التي تزامنت مع تكبّد العراق تكاليف الحرب ضد تنظيم داعش، في الحقيقة تم إيقاف آلاف المشاريع، أعتقد أن عددها بلغ 6000 مشروع، وكان المستشفى التركي في ذي قار أحد تلك المشاريع.
"لسنا مدينين للشركة بدينار واحد"
ينفي السياسي والمسؤول البارز في حديثه لـ "ناس" أن يكون سبب التلكؤ في إنهاء المرحلة الاخيرة (10%) من مشروع المستشفى التركي في ذي قار، هو نقص التمويل، ويؤكد إنه وخلال أكثر من 10 زيارات إلى عدة وزارات في بغداد، ولقاءات بمسؤولين حكوميين بارزين بينهم رئيسي الوزراء حيدر العبادي وعادل عبدالمهدي، ووزراء إسكان وتخطيط وصحة، ومسؤولين في الشركة، لم يتطرق الحديث عن نقص في التمويل، كما ينقل عن مسؤول الدائرة الفنية في الوزارة قوله "لسنا مدينين للشركة بدينار واحد!" قياساً بنسب الإنجاز المتحقق، حيث تبلغ قيمة مشروع مستشفى ذي قار بالكامل نحو 95 مليون دولار، استلمت الشركة غالبية المبلغ تبعاً لمراحل الإنجاز وفقاً للمسؤول.
دور تظاهرات 2018
بعد تظاهرات العام 2018 في البصرة وبعض مدن الوسط والجنوب، تشكلت خلية أزمة برئاسة العبادي، وخلية أزمة في المحافظة تضم المسؤولين المحليين، وكنتُ أحد أعضائها، وساهم التنسيق بين الخليتين في إعادة الحياة إلى عدد من المشاريع، منها مشروع الخط السريع الدولي (ديوانية – ناصرية)، كانت جهوداً مثمرة من خليتي الأزمة والعبادي، إلا أن المستشفى التركي بقي متلكئاً".
لاحقاً، حصل اجتماع حضره وزير التخطيط آنذاك سلمان الجميلي ومديرة دائرة الموازنة في وزارة المالية طيف سامي، لمناقشة اكثر من 20 ملفاً قمنا بتقديمها كخلية أزمة ذي قار، إلى خلية الأزمة الإتحادية، وعقدنا 25 اجتماعاً في بغداد لبحث عدة مشاريع متلكئة، على رأسها المستشفى التركي، وحضر ممثل الشركة التركية في أحد الاجتماعات، وتم إحراز تقدم بسيط في المفاوضات لإقناع الشركة بمواصلة العمل".
ويتابع "ثم تبدّلت الحكومة بعد أشهر، ووصل طاقم رئيس الوزراء السابق عادل عبدالمهدي، وواصلنا المتابعة، ليُصار إلى تكليف وزير الإسكان بنكين ريكاني برئاسة لجنة وزارية كبيرة لمتابعة الملف، ومطلع العام 2019، استأنفت الشركة عملها بالفعل، ووفقاً للإتفاق، فقد كان مُنتَظراً من الشركة أن تبدأ تشغيلاً تجريبياً في 1 آذار 2019، يستمر 3 أشهر".
الزيارة الأخيرة
في موعد التسليم التجريبي، بدا أن الأمور لم تزدد إلا سوءاً، يقول المسؤول "زرت المستشفى في آذار 2019 لأرفع الموقف الأسبوعي الى خلية الازمة الإتحادية، فلم أجد شيئاً يُذكر، قررت منحهم شهراً إضافياً قبل رفع الموقف، أجريت زيارة في نيسان واصطحبت معي هذه المرة وفداً من المسؤولين المحليين والإتحاديين، من بينهم المهندس المقيم ومدير صحة المحافظة، وتأكدنا جميعاً أن هذه الشركة لن تتمكن من التسليم حتى بعد عامين من الموعد، وأرسلنا إلى الوزير علاء الدين علوان نقول له (الشركة لم تسلم المشروع في موعدها، وهي لن تسلمه حتى بعد عامين، حجم العمل لا يوحي، ولا أعداد الكوادر)، فقامت وزارة العلوان بتشكيل لجنة وحثّت الشركة على على الاستمرار، فقامت الشركة برفع وتيرة العمل لكن ايضاً دون المطلوب".
يضيف "مع اندلاع تظاهرات تشرين 2019، أصدرت حكومة عبدالمهدي قراراً بمنح مشاريع الشركات الاستثمارية والمقاولات وغيرها فترة سماح ابتداءً من 1 تشرين 2019، ومازالت الفترة سارية، وربما لا تعرف الحكومة الحالية أن بداية حل مشكلة المستشفيات المعطلة هو مراجعة هذا القرار الذي يشمل نحو 6 آلاف مشروع، فالشركة لا تتحمل أي مسؤولية لأنها متوقفة عن العمل بقرار حكومي يسمح لها بالتوقف، وأعتقد أن كوادرها الآن في بلادهم، وربما لا يوجد أحد داخل المشروع الذي يتظاهر أمامه الشبان بين فترة وأخرى.
في الحقيقة لا أدري ماعلاقة تظاهرات تشرين بالمشروع، فالمواد الإنشائية والكوادر كانت داخل المشروع، ولم تشهد المحافظة سلباً أو نهباً أو تهديداً لأي شركة عاملة في مشروع لا على يد المتظاهرين ولا غيرهم، لكن ربما كان هناك توجه سياسي بإلصاق الفشل بالتظاهرات، ويبدو أن المدينة تعرضت لعقوبة بسبب تصدرها للتظاهرات".
"ناس": لكن بعد هذا السرد التاريخي للقضية، أين سبب التلكؤ بالتحديد؟ لماذا لا تتم مقاضاة هذه الشركة؟ هل هي محمية سياسياً؟
"وفقاً لكل الاجتماعات والمباحثات أستطيع إيجاز المشكلة بعدة عوامل، نعم، الشركة سيئة، وتتحمل جزءاً من المسؤولية، لأنها لم تكمل أعمالها في سنوات الوفرة والهدوء، لكنها أيضاً بحكم القانون، تطلب سلفاً للعمل ويجب أن تحصل على المبالغ خلال 30 يوماً، وإذا لم يتم صرف المبالغ بعد 90 يوم، يكون من حق الشركة أن تطالب بالتعويض!.
لماذا لا تتم مقاضاتها؟ لا أدري، أنا أستغرب أيضاً، وقمت شخصياً بمتابعة ما إذا كانت الشركة تتعرض للإبتزاز أو التهديد داخل المحافظة، فلم أجد شيئاً، إذا كان المسؤولون يتهمون الشركة بالتلكؤ، فلماذا لم يقم أي وزير صحة بمقاضاتها، من حقبة المالكي إلى العبادي إلى عبدالمهدي وصولاً إلى الحكومة الحالية برئاسة الكاظمي، فالمستشفى التركي 400 سرير هو مشروع إتحادي مرتبط بدائرة مهندس مقيم إتحادية من وزارة الصحة في بغداد، ليس لأي جهة محلية سلطة عليه، مشروع وزارة الصحة من البداية إلى النهاية".
"ناس": ما رأيك بالأحاديث عن وجود "لوبي مستشفيات أهلية" مستفيد من توقف هذه المشاريع؟!
"في ذي قار، لا أعتقد، ربما في كربلاء أو البصرة مثلاً، حيث المؤسسات الصحية العديدة وخلفياتها المعروفة، يُمكن رمي الكرة بهذا الإتجاه، مع أنها تبقى إتهامات تحتاج للتحقق، أما في ذي قار، فالمحافظة صغيرة، وطيلة فترة متابعتي لم أصطدم لا بلوبيات ولا مافيات، كنت أصطدم بالقرارات والروتين والبيروقراطية".
"ناس": لكن "البيروقراطية والروتين" يُمكن أن يعرقلا العمل لفترةٍ معينة، أنت تتحدث هنا عن أكثر من عقد من الزمن؟!
"شخصياً، قمت بتحديد سبب الفشل وأطلعت عليه المسؤولين، نوعية العقد هو ما يسمى (مناقصة تسليم مفتاح تصميم وتنفيذ) لكن الإتفاق على جميع المستشفيات التركية الخمس، جرى في عقد واحد، وليس لكل مستشفى عقد، وبالتالي ليس هناك في العقد تفاصيل لكل مستشفى على حدة، هذه هي المشكلة الرئيسية، فأي مشكلة تواجه أي مشروع في أي محافظة، تنسحب على العقد بأكمله، وفهمنا من المسؤولين في الشركة، إنه كان هناك مشاكل في خطابات ضمان وتحويلات مصرفية غير تامة أو مدد اضافية في مشاريع المستشفيات خارج ذي قار، ربما في بابل كما فهمنا من مصادرنا، لكن المشكلة تنسحب على الجميع وبما فيها ذي قار، لانه عقد واحد، ولذلك بذلنا جهداً متواصلاً لفصل العقود عن بعضها، وعندما فشلنا، طالبنا بفرز المبالغ لكل مستشفى على حدة، وهو ما لم يتم أيضاً.
قدمنا تسهيلات كثيرة، من بينها مسألة الإقامات والضمان الاجتماعي، وحتى في قضية تدريب المنتسبين، الشركة أخفقت حيث كان التدريب وفقاً للاتفاق خارج العراق، لكننا قلنا للشركة، لا بأس، فليكن التدريب داخل العراق، فقط اجلبوا كوادركم التدريبية، لكن دون جدوى، هناك حلقة مفقودة، لا نعرفها، وربما نعرفها.. لقد فعلنا كل شيء من أجل ان تُكمل الشركة أعمالها، ومن أجل تفي الوزارة بالتزاماتها.. لكن طيلة عقد من الزمن.. كان دائماً هناك حلقة مفقودة!".
وما إن اقتربت الانتخابات الأخيرة في أيار 2018، حتى دخلت قضية المستشفيات التركية في ميدان الاستثمار الانتخابي، فقبل أقل من شهرين من يوم الانتخابات، نشرت النائبة عن دولة القانون آنذاك حنان الفتلاوي، فيلماً وثائقياً يُظهر ما تقول إنه "دورها" في افتتاح المستشفى التركي في المحافظة، لكن رغم ذلك، فشلت الفتلاوي لاحقاً في الاحتفاظ بكرسيها في مجلس النواب بعد ظهور النتائج.
وفي وقت لاحق، بدا أن المستشفى التركي في بابل، يستعد للإنضمام إلى أقرانه من المستشفيات العراقية الرديئة، حيث بدأ المراجعون بتناقل مشاهد مصورة وصور تُظهر تراجع الإعتناء بالمنشأة التي استغرقت أعواماً لإنشائها وملايين الدولارات..
أما الحكومة الحالية برئاسة مصطفى الكاظمي، فهي تظهر إشارات على الرغبة في إنهاء هذا الملف، كما جاء على لسان وزير التخطيط خالد البتال، ووزير الصحة حسن التميمي، وعدد من المسؤولين الذين وعدوا بإنهاء ملف المستشفيات العشر، وهو ما يبقى محل تشكيك لدى الرأي العام، نظراً لتاريخ الوعود الطويل في هذا الملف.