بملابس بالية متسخة، يحمل أطفال تتراوح أعمارهم بين 10 و15 عاماً، معدات لتصليح السيارات في منطقة الشيخ عمر الصناعية وسط بغداد، ليزاولوا أعمالا يومية شاقة، كما لو كانوا رجالا مدركين معنى العمل والتزاماته.
ويمكن بسهولة من النظرة الأولى ملاحظة أن هؤلاء الأطفال يعيشون في أوضاع استثنائية تفوق أعمارهم الصغيرة. فمن يزاول مثل هذه المهن يُفترض به أن يتحلّى بالقوة والقدرة على التعامل مع أجزاء المركبات الثقيلة!
ويرى عدد من هؤلاء الأطفال، أنهم يمتلكون خبرات في مهنتهم لا تقل عن خبرات رجال يفوقونهم كثيرا في القوة البدنية، وفي طول فترة ممارسة المهنة. كما يرون أنهم اكتسبوا هذه الخبرات في سوق العمل وعبر مخالطة الكبار. إذ بدأ بعضهم بمزاولة هذه المهن الشاقة بعمر 7 سنوات، وهناك من دخل سوق العمل بعمر أقل، ما يعني انهم لم يُحظوا بفرصة للجلوس على مقاعد الدراسة!
كل ذلك بسبب الفقر المدقع الذي يُرغم عائلات كثيرة على إرسال أطفالها إلى سوق العمل، كي يؤمّنوا لها لقمة العيش!
الطفل أبو شاهين!
الطفل أحمد سلام الذي يُلقب نفسه بـ"أبو شاهين" نسبة إلى شخصية اشتهرت على منصات التواصل الاجتماعي، وعُرفت بإطلاقها قصصاً بطولية عن نفسها لا صلة لها بالواقع.. يقول في حديث صحفي أنه "وُلدت عام 2018، ولا أنوي الدخول إلى المدرسة لأنني اعتدت على مرافقة أقراني الأطفال الذين يعملون في الحي الصناعي".
ولا يُمارس أحمد الذي تسكن عائلته قرب هذا الحي، مهنة محددة، فهو يوصل طلبات الطعام إلى الورش، وينقل احتياجات ومشتريات لأصحاب محال بيع قطع غيار المركبات.
وبسبب تقليده شخصية "أبو شاهين" بات أحمد محبوباً لدى الجميع، ويحظى بعناية من العاملين في الورش وأصحاب المحال.
أما عن النقود القليلة التي يحصل عليها جراء عمله اليومي، فيقول انها المصدر الرئيس لمعيشة أسرته المؤلفة من أب مريض غير قادر على العمل ووالدة وشقيقتين.
وأصبحت عمالة الأطفال ظاهرة متفشية في العراق، وسببها الأول الفقر الذي يدفع العائلات إلى زج أبنائها في سوق العمل، في ظل عدم وجود استراتيجية حكومية جادة لمكافحة الفقر والحد من عمالة الأطفال والتسرب المدرسي.
ويفيد المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق، بأن العراق يحتل المرتبة الرابعة عربيا في عمالة الأطفال، بعد اليمن والسودان ومصر، مبينا أن ما نسبته 4.9 في المائة من الفئات العمرية الصغيرة، تعمل في قطاعات الصناعة والزراعة والخدمات.
ويواجه الأطفال العاملون انتهاكات جسيمة لحقوقهم، حيث يُحرمون من التعليم ويتعرضون لمخاطر جسدية ونفسية كبيرة.
أعمال شاقة مقابل أجور زهيدة!
في تقرير له، يروي المرصد العراقي لحقوق الإنسان قصة طفل يبلغ من العمر 10 سنوات، يعمل في محل لتصليح السيارات في منطقة الدورة جنوبي بغداد.
ويقول المرصد أن والد الطفل متوفٍ قبل سنوات. بينما والدته تعمل مُنظفة مقابل أجور بسيطة. أما هو فيتقاضى يوميا أجرا يبلغ 7 آلاف دينار مقابل عمل يمتد إلى 9 ساعات.
وينقل المرصد عن الطفل قوله: "أعمل كل يوم لأساعد أمي، لكنني أشعر بالتعب الشديد. أتمنى لو كان بإمكاني الذهاب إلى المدرسة واللعب مثل بقية الأطفال، لكن ماذا أفعل، أريد أن أصبح رجلاً، رغم أنني ما زلت صغيراً".
ويعاني هذا الطفل الذي لم يفصح المرصد عن اسمه، ضغوطا نفسية كبيرة نتيجة العمل في بيئة غير آمنة، إذ يُصاب بالقلق والاكتئاب. بينما يُحرم هو وأقرانه الآخرون في سوق العمل، من التعليم والتفاعل الاجتماعي، ما يعيق نموهم النفسي والاجتماعي، ويجعلهم أكثر عرضة للانعزال والاستغلال.
كما يتحدث المرصد عن طفل آخر يبلغ من العمر 11 عاماً ويعمل مساعد كهربائي سيارات في منطقة كمب سارة وسط بغداد. ويؤكد أن هذا الطفل يعاني مشكلات عديدة أبرزها الإهانات والتصغير المستمر من قبل العاملين معه، وتكليفه بأعمال كبيرة وكثيرة.
ويتقاضى هذا الطفل – حسب المرصد – أجرا يوميا يبلغ 10 آلاف دينار، لمساعدة والدته الأرملة في تأمين شرط العيش للعائلة. ويقول: "أتعرض للإهانات في العمل، ويكلفوني بمهام كبيرة. أحاول أن أتحمل لأنني أريد مساعدة والدتي في توفير طعامنا".
مخاطر جسدية ونفسية جمة
من جانبه، يقول الاختصاصي في علم الاجتماع عادل المرير، ان عمالة الأطفال انتشرت خلال السنوات الأخيرة بشكل كبير. فبسبب الفقر وفقدان المعيل يعمل أطفال بأعمار صغيرة في مهن صعبة شاقة، ما يعرضهم لمخاطر جسدية ونفسية جمة".
ويضيف في حديث لـ "طريق الشعب"، أن "الأطفال الذين يعملون في بيئات غير سليمة، قد يتعرضون لإصابات جسدية وأمراض خطيرة، إلى جانب ضغوط نفسية ناتجة عن اضطرارهم إلى تحمل مسؤليات كبيرة"، مشيرا إلى ان "زج الأطفال في سوق العمل غالبا ما يحرمهم من الدراسة. وأحيانا يجعلهم عرضة للإصابة بانحرافات سلوكية فيما إذا اختلطوا بأناس غير أسوياء في بيئات العمل".
ويشدد المرير على "أهمية الحد من ظاهرة عمالة الأطفال، عبر إطلاق برامج وخطط حكومية لدعم العائلات الفقيرة اقتصاديا، وتوفير فرص عمل مناسبة لمعيليها، مع توعيتها بخطورة مغادرة الأطفال مقاعد الدراسة"، مطالبا بتفعيل القوانين التي تحظر عمالة الأطفال، مع تشديد الرقابة على أماكن العمل لرصد هذه الحالات ومنعها.
ويمنع قانون العمل العراقي رقم 37 لسنة 2015، تشغيل الأطفال دون سن 15 عاما. ويحصر السماح بتشغيل من هم بين 15 و18 عاما وفق شروط وتحت رقابة وفي مهن محددة.