حين يقرأ الطالب نصوصًا مثل “يا مدرك الثارات أدرك ثارنا”، فإنه يتعلم ضمنيًا أن قيمته الحقيقية تتحقق في القتال لا في الإبداع، في الموت لا في الحياة. في بلد خرج من حروب وحصارات وصراعات لا تنتهي، كان الأجدر أن تُبنى المناهج على قيم السلام، التفكير النقدي، والتعايش، لكن المناهج العراقية تُعيد إنتاج سرديات العنف، وكأن العراق لم يدفع بعد ثمن الدماء بما يكفي.
تخيل أن طالبًا عراقيًا في الصف الثاني المتوسط يقف منذ بداية العام الدراسي عاجزًا عن الحصول على كتابه المقرر، فيضطر والداه للبحث عنه في السوق السوداء، حيث تُباع الكتب بأسعار باهظة، أحيانًا بأضعاف قيمتها الحقيقية.
هذه ليست قصة خيالية، بل واقع يعيشه مئات الآلاف من الطلاب في العراق. والمفارقة الأكبر أن وزارة التربية، التي لم تستطع تأمين المناهج الأساسية، وجدت في المقابل وقتًا و”رؤية” لتضمين قصيدة الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي “يا مدرك الثارات أدرك ثارنا” في كتاب اللغة العربية للمرحلة المتوسطة.
هذه المفارقة تلخص مأساة التعليم في العراق، كتب مفقودة، مدارس طينية وكرفانية، نقص بالكوادر، صفوف مكتظّة. لكن في المقابل، هناك حرص بالغ على تمرير نصوص شعرية ذات حمولة سياسية وتعبوية، لا علاقة لها بتعليم اللغة أو بناء عقل نقدي لدى الناشئة.
وزارة التربية تعترف ضمنيًا بعجزها حين تترك الطلاب وأولياء الأمور تحت رحمة السوق السوداء، فغياب الكتب أو تأخّر توزيعها سنويًا لم يعد استثناءً، بل أصبح قاعدة. عوضًا عن أن تركز الوزارة على معالجة أزمات التعليم، نجدها منهمكة في اختيار نصوص شعرية تصدّر خطاب الثأر والجهاد، لتغدو المناهج أداة تحشيد إضافية بدل أن تكون وسيلة لبناء جيل متعلم.
قصيدة البرغوثي، بكل رمزيتها، ليست مجرد نص أدبي، إنها شحنة خطابية تُدرّس لطفل في الثالثة عشرة من عمره، بالكاد يخطو أولى خطواته في التفكير المنهجي. ماذا يعني أن يزرع المنهج في ذهنه أن “الثأر” قيمة، وأن “أدرك ثارنا” شعار يُتغنّى به داخل حصة لغة عربية؟
يفترض أن تكون وظيفة وزارة التربية هي ضمان تعليم رصين يهيئ الأطفال للحياة والعمل والإبداع، لكن ما يحدث في العراق هو العكس تمامًا، فالتربية تتخلى عن التعليم وتتبنى وظيفة التعبئة، بدلاً من صفوف مليئة بالعلم والمعرفة، نجد صفوفًا مكتظة تخنقها المناهج الثقيلة بالأيديولوجيا.
الطالب العراقي لا يُعِدُّ نفسه لمستقبل منفتح على التكنولوجيا والعلوم الحديثة، بل يُدجَّن منذ الصغر على أن مستقبله معرّف بالموت والثأر، هكذا تتحول المدرسة إلى ساحة تعبئة مبكرة، يخرج منها جيل يرى الحرب قدرًا والموت بطولة.
حين يقرأ الطالب نصوصًا مثل “يا مدرك الثارات أدرك ثارنا”، فإنه يتعلم ضمنيًا أن قيمته الحقيقية تتحقق في القتال لا في الإبداع، في الموت لا في الحياة. في بلد خرج من حروب وحصارات وصراعات لا تنتهي، كان الأجدر أن تُبنى المناهج على قيم السلام، التفكير النقدي، والتعايش، لكن المناهج العراقية تُعيد إنتاج سرديات العنف، وكأن العراق لم يدفع بعد ثمن الدماء بما يكفي.
هذا الانحراف في وظيفة التعليم لا يمكن عزله عن واقع البنية التحتية المتهالكة، فما زالت آلاف المدارس الطينية والكرفانية قائمة وغير صالحة لاستيعاب الأطفال، فيما تضم بعض الصفوف ما بين ستين إلى سبعين تلميذًا في مشهد يحوّل العملية التعليمية إلى مجرد حفظ آلي بلا استيعاب. كما يتفاقم نقص الكوادر التدريسية عامًا بعد عام، ما يدفع الوزارة إلى اللجوء للتعاقدات المؤقتة بدل بناء جهاز تعليمي متماسك، في حين تستمر نسب التسرب والأمية بالارتفاع خصوصًا في المناطق الفقيرة والريفية.
وسط هذا الخراب، تصبح المناهج المؤدلجة أشبه بصدمة إضافية، لا تعليم جيد، ولا حتى حياد في المحتوى، بل تسييس وتحشيد مباشر.
التحشيد الأيديولوجي في المناهج ليس وليد المصادفة، فمنذ 2003، دخلت قوى سياسية ودينية في سباق محموم للسيطرة على المناهج التعليمية، والنتيجة أن المناهج أصبحت ساحة نفوذ يتصارع عليها الجميع، تُضاف نصوص هنا وتُحذف أخرى هناك، وذلك كله على حساب بناء عقل مدرسي مستقل.
أسلمة التعليم وتحويله إلى محاضرة جهادية لا يحدثان فقط عبر النصوص الدينية المباشرة، بل أيضًا عبر تضمين قصائد وخطابات ذات طابع تعبوي، تُقدَّم على أنها أدب عربي رفيع. وهكذا تُختزل اللغة العربية من فضاء واسع للمعرفة والجمال إلى أداة تحريضية.
- صحافي عراقي