في صحبة المعلم .. جاسم العبودي
نشر بواسطة: Adminstrator
الثلاثاء 17-04-2012
 
   
علي حسين
تقاطيع صارمة ممزوجة بحكمة مجربة، شخصية مزيج من سجايا وخصال الأستاذ الأكاديمي والمثقف الوطني، هكذا كنت أرى المعلم جاسم العبودي يوم أن خطوت أولى خطواتي باتجاه أكاديمية الفنون الجميلة وقتها استمعت لتعليقات الطلبة والأساتذة عنه وكلها تحذرني من الاقتراب من هذا الرجل الذي لا يتسامح حتى مع الخطأ البسيط في الحياة فما بالك وأنت الشاب الصغير الذي لا تملك خبرة في الحياة ولم تعرف من المسرح إلا ما جادت به الكتب القليلة التي يتيحها مصروفك اليومي لاقتنائها من مكتبات شارع السعدون، 



وتقودني خطاي يوما لأن اسأل المعلم عن كتاب حياتي في الفن لستانسلافسكي والذي استعرته من احد الأصدقاء فقد حيرتني فيه جمل كثيرة لم استطع حل لغزها ، وما هي إلا دقائق حتى وجدت نفسي أمام شخص آخر، يغلف الكلمات بروح المرح والنكتة ، وأيضا بجمل لن تغادر ذاكرتي، فلم يكن الحديث عن ستانسلافسكي فقط وإنما عن دور المسرح في حياة الناس، فالمسرح بالنسبة إليه هو فن إشاعة الجمال  قال لي : أؤمن  أن الفن لا تقوم له قائمة وسط الفوضى والعبث فالفن هو نظام وجمال قائم على التناسق، ثم أضاف :  المسرح هو أصعب الفنون على الإطلاق، يمكن للطفل الصغير أن يعزف على آلة الكمان بمهارة ويمكن لصبي أن يرسم  لوحة جميلة ولكن لا يستطيع أن يخرج مسرحية إلا وهو إنسان ناضج ، فهذه المهنة تعتمد على إخضاع الآخرين لـ " الأنا "  ولا يوجد في رأيي أصعب من أن تؤثر في الآخرين" .
حين اكتشفت أنني أمام كتاب أتنقل بين صفحاته من الفلسفة إلى الفن ، ومن المسرح إلى الفكر، ومن السياسة إلى الاجتماع ، اقرأ بلا تعقيد ولا تكلف، واجده يناقش اعقد الأفكار بلغة بسيطة ويفلسف ابسط الأشياء بلغة عميقة، رأيت امامي فيلسوفا عقلانيا كان يضع كل شيء موضوعا للتساؤل والتأمل ، باحثا عن علة كل ظاهرة ثقافية وفنية ، كانت عقلانيته عصب منهجه النقدي الذي ورثه وقد انتفع من رفقته للشاعر الدكتور محمد مهدي البصير حيث كان يقرأ له ما يطلبه منه، ويستمع إليه مدرسا ومحاضرا، فيزداد معرفة ودراية باللغة العربية وبإلقائها وأدبها، ومن أستاذه البصير اكتسب العبودي قدرة عجيبة على شرح اعقد الأفكار بوضوح نادر مما يؤكد عمق ثقافته ومدى امتلاكه المفاهيم التي كان يعرض لها، متناولا كل ما يقال بالتحليل واضعا اجتهادات الآخرين موضع التساؤل حريصا على بث الثقة في نفوس طلبته ، منذ ذلك اليوم جمعتني صحبة بمعلمي لم تنته إلا بمغادرته العراق إلى أمريكا ورحيله الأبدي فيها، وخلال هذه الصحبة لم أتردد يوما في الخوض في أعمق المسائل مادام هو موجودا أمامي ، لأنني كنت على يقين بأنه سيأخذ بأيدينا إلى شواطئ المعرفة الحقة.
****
المخرج هو مترجم أفكار الدراما ، تبدأ مدرسة ستانسلافسكي للإخراج بهذه القاعدة إذ يقول: (إن فن الإخراج يبدأ عندما يعبر المخرج عن مضمون المسرحية ويكون مترجما أمينا لأفكارها فالمسرح سيظل دائما حيث ترتبط أفكار المؤلف ومواهبه مع أفكار الممثل ومواهبه لذلك وجب على المخرج أن يكون دائم اليقظة عند فحصه الشخصيات التي أوردها المؤلف ومطابقتها للمواقع) ، وقد شغفت هذه التعاليم لجدتها وحيويتها عددا من مخرجينا الرواد اللذين درسوا فن الإخراج المسرحي خارج القطر ، وكان الفنان الراحل جاسم العبودي احد الذين تأثروا بهذه التعاليم وحاولوا تطبيقها على واقع الفن المسرحي في العراق.
هذا الواقع الذي كان يخضع لطريقة فناننا الرائد حقي الشبلي التي اقتبسها الشبلي من خلال دراسته للفن في باريس ومن خلال تأثره باتجاهات العروض المسرحية المصرية في الثلاثينيات من هذا القرن ، ويصف لنا احد تلامذة الشبلي ومن الذين عملوا معه على طريق الفنان الراحل حقي الشبلي مثل الطريقة التي تعتمد على تصوير المظهر الخارجي للشخصية ، حيث كان الشبلي يعد المظهر ومتغيراته هو منطلق التمثيل وهو الذي يؤثر في السلوك الشخصي ويأتي بعد ذلك تحليل الشخصية وتكوينها النفسي في عملية لاحقة كالمظهر الجسماني والصوتي ، ولذا كان الشبلي يهتم كل الاهتمام بطرازية الحركة وطرازية الإلقاء حيث يتشدد كثيرا في وقف الممثل ووضعيته الجسمانية في الجلوس والوقوف ويؤكد ضرورة مواجهته للمتفرج ، وكان جاسم العبودي الذي عاد من شيكاغو عام 1953 بعد حصوله على شهادتي البكالوريوس والماجستير في فن الإخراج المسرحي أول من خالف الشبلي في طريقته تلك فقد اخذ بعد عودته يبشر بتعاليم ستانسلافسكي ومدرسته الواقعية ويدعو إلى الدراسة الشخصية المسرحية وتحليل أعماقها ودراسة المشهد المسرحي بكل مقوماته ومكملاته الفنية الأخرى من ديكور وموسيقى وإنارة إضافة إلى اهتمامه بدراسة العناصر الأساسية للإخراج المسرحي ، هذه العناصر التي تتحدد ضمن الأسس التي وضعها ستانسلافسكي وعدد من تلاميذه وهي تكون في الحركة والتصوير التخيلي والإيقاع والأداء الدرامي الصامت. ولم يكن اهتمام العبودي بدور المخرج في نهضة المسرح العراقي المحلي في تأسيس النهضة المسرحية الحقيقية وفي خلق وعي سياسي وثقافي بين أبناء الشعب إذ كان اختياره للمسرحيات التي أخرجها يخضع لشرطين أساسيين ، الشرط الأول : القيمة الفكرية للنص المسرحي ومدى اقترابه من هموم الناس والشرط الثاني : قيمته الفنية ، ولهذا توزعت خياراته بين نصوص محلية وعربية وعالمية أخضعت لهذين الشرطين ( ماكو شغل ، تؤمر بيك ليوسف العاني ، الأسوار لخالد الشواف ، الحقيقة ماتت لعمانؤيل روبلس، موتى بلا قبور لسارتر عطيل، وشكسبير العادلون، لابير كامو البخيل لمولير ، حفلة سمر من اجل خمسة حزيران لسعد الله ونوس، كلهم اولادي لارثر ميلر).
ويضع جاسم العبودي تعريفا للمسرح بكونه محاكاة للواقع ولكن ليس بمعناها الفوتوغرافي والدراما ما هي إلا تعبير عن الأفكار الإنسانية وهي بدورها نتاج ما يسترجع من صور. هذه الصور تسترجع لأن الفنان الخلاق يستعمل صور الخبرة السابقة، صور الحياة التي أعاد تجميعها ومن خلالها يبدع شيئا وهو نتيجة تصوره الخاص ولكنه أساس لا يعدو أن يكون الحياة ذاتها فالغرض من الفن والمسرح كشكل هو إثارة الأحاسيس والأعمال الدرامية مثل هاملت وفاوست والحضيض والشقيقات الثلاث، تثير شعورا حادا لدى المتفرج هذه الإثارة العاطفية يجب ألا تكون مجرد تأثير عابر بل يجب أن تكون قوة العاطفة على الفرد بالغة العمق بحيث يبقى بعد زوال المؤثر المباشر من ضياع دائم يؤدي إلى التفكير وما لم يثر العمل المسرحي هذين العاملين فلا يمكن إدراجه ضمن الأعمال المسرحية فالإثارة التي يحدثها العمل الفني لم تعط الفرح ما يفكر فيه ولكنه أيقظ تجاربه الذاتية وتصوراته وأفكاره عن الحياة ودفعتها إلى دائرة الإدراك والعمل ، هذا للفهم العملية الفنية لدى العبودي انعكس بشكل واضح على طبيعة عمله في المسرح فنجده قبل أن يقرر البدء مع الممثل المعني واضعا أمام هذا الممثل بعض الخصائص الفردية والإبداعية المميزة له بالذات ومن خلال هذه الجلسات ، يضع العبودي يده على الخصائص الفردية والمميزة للممثل التي تؤثر في هذا الشكل او ذاك في عمله.
ويرى جاسم العبودي أن المخرج هو سيد المسرح الذي تخضع لديه العملية الخارجية إلى ثلاث مراحل الأولى تبدأ بالمخرج المترجم وهو الذي يوضح كيف يكون التمثيل ويمكن أن نسميه بالمخرج الممثل وهو الذي يسهل المشاكل المتعلقة بالتكوينات الفنية عن الممثل وثانية المخرج العاكس وهو الذي يعكس للممثل الإحساسات والانفعالات ويعيدها إليه ليقوم الممثل بتمثيلها وعلى المخرج أن يتعرف بدقة على إمكانية الممثل وان يعطيه من نفسه في أثناء العمل ما يعينه على التعمق في دوره والأخذ بناصيته ثم المخرج منظم العرض المسرحي وهو الذي يتحمل كل أعباء المسرحية وينظر إلى كل مرحلة فيها نظرة تمعن ويبذل كل جهوده لربط شخصيات المسرحية في وحدة فنية متكاملة مضيفا إليها عنصر الإنارة والديكور والموسيقى ، وقد اخذ الديكور حيزا مهما في عمل جاسم العبودي إذ عد احد العناصر المهمة في المسرحية وما نعنيه ليس الديكور الجامد الثابت وإنما الديكور المتحرك بالألوان والتشكيلات التي تخضع لضرورات الفعل المسرحي. لقد حرص جاسم العبودي منذ البداية على تثبيت مجموعة من القيم الجديدة في مسرحنا العراقي أولها : أن المسرح ما هو إلا سلاح متقدم وفعال ينبغي لنا أن نتقن ممارسته ونحسن استعماله خدمة لقضايا الأمة والشعب، وثانيها : أن المخرج المسرحي هو عقل المسرح وذهنيته وسيد نظريته، وثالثها احترام عمل الممثل لكونه الشخصية الأولى التي تبدأ بوضع البذرة الأولى في العمل.
****
لقد كان جاسم العبودي يرى أن قيمة المخرج الواقعي الحديث تكمن في قدرته على عكس المظهر في استمرار الحياة الواقعية بشكل فني جميل ومؤثر، يكتب المعلم في الصفحة الأخيرة من حياته : " كنت أتمنى لو أنني مثل مايكل انجلو وأكون نحاتا ، أن أتمتع بسلطة مطلقة على الصخر، فأشكله كيفما أشاء، كنت أتمنى أن أحول خشبة المسرح إلى معرض للفن يسرق النظر قبل أن يستولى الممثلون بكلماتهم على حواس الناس" اليوم نتذكر تلك الروح العذبة  ، النقدية حد التجريح ،  والمرحة في أوقات الصفاء، الراصد لأصعب لحظات الحياة وأدقها لتكون موضوعا لمسرح عشقه حد التماهي.

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced