سوء التفاهم» لألبير كامو:... ولكن لماذا عجز جان عن الكلام؟
نشر بواسطة: Adminstrator
الخميس 14-01-2010
 
   
الحياة
حين يكون ميرسو (بطل رواية «الغريب» لألبير كامو) قابعاً وسط صمته في زنزانة سجنه، يقع بين يديه مقال في صحيفة قديمة. يقرأ المقال من دون أن تستبد به أية مشاعر حياله. إنه يتعامل مع المأساة التي يرويها هذا المقال تعاملاً في منتهى الحياد، تماماً كما يتعامل مع الجريمة، في حق ضحيته العربي، التي يقترفها هو نفسه. هذا بالنسبة الى ميرسو، أما بالنسبة الى ألبير كامو نفسه فإن المقال سيتحول بسرعة الى مسرحية حملت عنوان «سوء التفاهم» قدمت للمرة الأولى عام 1944 على خشبة «ماثوران» الباريسية، بعد عام من نشرها كجزء من «دائرة العبث» وهي مجموعة كتابات نشرها كامو عام 1943، الذي كان واحداً من أخصب أعوام مسيرته الأدبية.
> للوهلة الأولى، تبدو مسرحية «سوء التفاهم» ذات حبكة تقترب من الميلودراما، في الوقت نفسه الذي تبدو فيه كنص تشويقي إجرامي، غير أن هذه المسرحية سرعان ما تكشف، وبشكل تدريجي جوّانيتها، مثلها في هذا مثل معظم نصوص كامو الإبداعية، إذ يتبين، خلف أحداثها، وجود مجموعة من الأفكار والرؤى التي أنفق ألبير كامو الجزء الأساس من مسيرته وهو يحاول سبرها والتعبير عنها، كالحب والوحدة والهجران، والروابط العائلية وعبثية الحياة، ودور المصادفة في هذه الحياة وربما في الموت أيضاً. وكل هذا على خلفية اللاتواصل وسوء التفاهم بين البشر، ناهيك بما أراد كامو أن يقوله، أولاً وأخيراً، من حول المسكوت عنه، الذي لا يقال، مع استحالة إبداء أي رد فعل تجاه القدر الذي لا يسمّى.
> كما قلنا، ليس من السهل من مشاهدة أولى أو لدى قراءة أولى لهذه المسرحية إدراك كل هذه المعاني. ومن هنا كان طبيعياً لعدد كبير من الاقتباسات المسرحية ثم التلفزيونية والسينمائية لـ «سوء التفاهم» أن تعجز عن إيصال أفكارها... ذلك ان الحوارات والمواقف هي، في سياق المسرحية، من التلاحق والمباغتة الى درجة تلغى معها إمكانية التأمل. فعلى سبيل المثال لا الحصر، تكمن مشكلة البطل جان الأساسية في عدم تمكنه من أن يعلن أمام أمه وأخته عن عودته، ما إن يصل الى الفندق الذي تديرانه. وهذا العجز، لا الرغبة الطوعية في تأجيل الإعلان عن العودة، هو الذي يودي الى الجريمة فالمأساة العائلية. وهنا، كيلا نستبق الأحداث نعود الى المسرحية نفسها لنعرف من هو جان، ولماذا عاد وأين تكمن المأساة؟
> جان هو شاب كان قد بارح المنزل العائلي ليعثر على حياته وآفاق مستقبله في الهجرة. وهو وفق في هذا، بعد أن ترك أمه وأخته وحدهما تعيشان مصيرهما، هما اللتان، بعد رحيل الأب موتاً والابن هجرة، تمتلكان نزلاً قروياً، كي يمكنهما من تدبير العيش. غير ان هذا النزل لا يشتغل كما يجب... ومن هنا فإن الأم والابنة لا تحققان أي قسط من النجاح الذي حققه الابن الغائب منذ سنوات طويلة. فما العمل؟ ببساطة، وكما يحدث في القصص والأفلام البوليسية المرعبة، تقدم الأم بالتواطؤ مع ابنتها، ما إن يحل في نزلهما، زبون يلوح عليه الثراء أو يبدو أنه يمتلك بعض المال، تقدم على قتله ودفنه بعد سلبه ما يمتلكه. ومن نافل القول هنا ان أمور المرأتين تسير على هذا النحو بشكل جيد، حيث ان جرائمهما لا تكتشف وسط عالم صامت غامض لا يسأل فيه أحد عن أحد. ولكن، هل كان يمكن مثل تلك الحال أن تدوم الى الأبد؟ ربما... ولكن القدر - كما عادته - سيكون هنا في المرصاد. فالابن جان، يقرر ذات يوم وقد استبد به الشوق الى قريته وبقية ما تبقى من عائلته، يقرر العودة ومفاجأة أمه وأخته بتلك العودة. وهو بالفعل يعود. وينزل تحديداً في النزل العائلي، انما دون أن يكشف هويته، معتقداً أن من الأفضل أن يؤجل ذلك ليفاجئ الأم والأخت بتلك العودة. وهما طبعاً لن تعرفاه، إذ إن سنوات طويلة كانت قد مضت على غيابه، تغير معها كثيراً، صار رجلاً ناضجاً. هو بالنسبة إليهما الآن، رجل ثري وحيد وربما غريب الأطوار بعض الشيء. ومن هنا سيكون من الطبيعي لهما، جرياً على عادتهما، أن تنتهزا الفرصة السانحة فتقتلانه وتسلبان ما معه من مال وفير. ولعل من الملائم هنا أن نتوقف لحظة للإشارة الى أن المسرحية، من ناحية مبدئية، لا تحاول أن تدين ما تقترفه الأم وابنتها، ذلك أن غايتهما من اقتراف الجرائم إنما هي الحصول على مال يمكنهما من مبارحة هذا المكان الموحش الرمادي، بحثاً عن آفاق حياة جديدة. إنهما تريدان، بالتحديد، أن تفعلا ما كان فعله الابن والأخ، قبل سنوات طويلة. وفي عرفهما فإن الغاية تبرر الوسيلة. لذا، لن تتحرك المسرحية بشكل حقيقي ودرامي إلا حين يتبين للقارئ أو للمتفرج ان الدور يقع هذه المرة على جان، الذي سيكون الضحية التالية لإجرام الأم وابنتها مارتا. إذ هنا، تتبدل المشاعر تجاه ما سيحدث. أما التشويق فيؤمنه التساؤل القلق طوال النصف الثاني من المسرحية عما إذا كان قتل جان سيتم أو لن يتم. هل تراه سيفصح عن هويته ما يردع أمه وأخته عن قتله، أم تراه سيظل على صمته هو الذي لا يعرف ما الذي يُدبّر له، بل حتى لا يعرف ماذا تفعل أمه وأخته عادة.
> في النهاية تحسم الأسئلة... ويكون الجواب إيذاناً بحدوث الدراما العائلية... أي الدراما الحقيقية في هذا العمل. ذلك ان كل الجرائم السابقة التي ارتكبت في حق أغراب، أي زبائن في النزل سابقين، كانت مجرد جرائم، لا اسم لضحاياها ولا حزن عليها. أما هنا، وإذ يكون جان هو الضحية، يصبح للقتيل اسم وهوية. يصبح جزءاً من عائلة. وعائلة سيكون حزنها عليه مضاعفاً عشرات المرات: انه حزن على فقدانه... وألف حزن على فقدانه كضحية هلكت على هذا الشكل، أي بأيدي ذويه. صحيح ان جانباً أساسياً من العمل يقوم هنا على فكرة العقاب الإلهي - التي لن يقر كامو أبداً بوجودها في هذا السياق، إلا منظوراً اليها بالمعنى التراجيدي الإغريقي القديم - كما ان جانباً أساسياً آخر سينطلق من فكرة الشعور بالذنب الذي سيعتري الأم وابنتها حين تدركان، بعد أن يكون الأوان قد فات، أن هذه الضحية الأخيرة، انما هو الابن الغائب والمنتظر نفسه، غير أن الأساس يبقى فكرة سوء التفاهم القائمة انطلاقاً من غياب التواصل... أي انطلاقاً من غياب اللغة، من المسكوت عنه. حيث لدينا هنا سؤال يكاد يشبهه السؤال الذي طرح يوماً بصدد قصة «رجال في الشمس» لغسان كنفاني: لماذا لم يدقوا على جدار الصهريج من الداخل رغم معرفتهم بأنهم هالكون؟ هنا، في «سوء التفاهم» يكون السؤال: لماذا ترك جان نفسه يقاد الى حتفه دون أن يحاول الكلام؟ لماذا هذا العجز عن الكلام؟
>تلك، في الحقيقة، بعض من الأسئلة التي طرحت دائماً من حول مسرحية، لم تتكلم هي الأخرى عن جوهرها وعن مواضيعها الجوانيّة، إلا بشكل تدريجي. وكما قلنا كان هذا هو، بالأحرى، الدأب الدائم لأدب ألبير كامو (1913 - 1960) الأديب الفرنسي الكبير الذي ولد في الجزائر التي ترعرع ونشأ فيها وسيصبح لاحقاً من الداعين الى استقلالها ولو بأشكال غير واضحة تماماً. ولقد عمل كامو في البداية صحافياً ومدرّساً، ثم انصرف الى الكتابة بعد أن بدأت كتاباته الأولى، ومن أبرزها «الغريب» تلقى نجاحاً كبيراً... الى درجة انه سيكون لاحقاً، ثاني أصغر فائز بجائزة نوبل للآداب (1957). ومن أبرز أعمال كامو الى «الغريب» ومسرحية «البررة»، «أسطورة سيزيف» و «الطاعون» و «المتمرد» إضافة الى أعمال عدة اكتشفت بعد موته في حادث سيارة.

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced