«إلمر غانتري» لسنكلير لويس: الدعاة حين يستغلون طيبة البسطاء
نشر بواسطة: Adminstrator
الجمعة 12-02-2010
 
   
الحياة
إن كل أميركي يعتقد من دون تردد أنه إذا عاش شجاعاً، نزيهاً، طيباً مؤمناً، إذا لم يغدر بأي شخص، وإذا لم يرتكب المعصيات، فإن الأمر سينتهي به الى أن يربح في اليانصيب، أو يتزوج ابنة رئيسه في العمل». بهذه العبارات البسيطة، أعتقد المخرج الأميركي ريتشار بروكس ذات يوم أن في إمكانه أن يكشف الستر عن سمة أساسية من سمات شخصية الأميركي الوسط، تلك السمة المرتبطة أساساً بما كان يسمى ذات يوم «الحلم الأميركي». وبروكس، الذي دنا في معظم أفلامه من هذه المسألة، وكان في الأصل صحافياً وأديباً، وقارئاً نهماً للأدب الأميركي، حين قرر ان يغوص أكثر وأكثر في هذا التحليل الأولي للشخصية الأميركية، وجد ضالته في رواية سنكلير لويس «إلمر غانتري» التي نشرها لويس في العام 1927، فأثارت ضجة كبيرة ووجهت اليها اتهامات عدة أهمها انها «رواية ضد الدين». لكن هذه التهمة سرعان ما سقطت تماماً، إذ بدا واضحاً أن الرواية ليست ضد الدين، بل ضد استغلال الدين لمآرب شخصية وتجارية من النوع الذي يفوق معدل وجوده في أميركا، أي معدل له في أي مكان في العالم. الرواية أتت لتنزّه الدين عمّن يستخدمونه، لا سيما من الدعاة وأصحاب الطوائف من الذين يستغلون إيمان الناس الطيبين البسطاء، وتوق الآخرين للعثور على الإيمان. وإذا كانت ظاهرة استغلال الدين هذه، موجودة في العالم اجمع ولدى شتى الأديان والمعتقدات، وتتفاقم أكثر وأكثر في أيامنا هذه، على حساب الصفاء الحقيقي للايمان المجرد ، فإننا نعرف أنها تصل الى ذروتها في أميركا العميقة، لا سيما في زمننا هذا حيث أمعن الخطاب التلفزيوني في استشرائها، قبل أن يصل محافظو الصهيونية المسيحية الى السلطة في واشنطن، فتصبح للأمر أبعاد في غاية الخطورة.
> إذاً، باكراً، منذ نهاية الربع الأول من القرن العشرين، تنبّه الكاتب سنكلير لويس الى هذا الواقع، وكتب روايته التي أثارت ضجة كبيرة. والحقيقة انه كان من الطبيعي لكاتب تعمّق في دراسة الذهنيات الجماعية الأميركية، من طراز سنكلير لويس، أن يصل الى ذلك الموضوع... في رواية شعبية غزت الفئات والمناطق الأميركية كلها. ثم حين حوّلت الى فيلم بعد ذلك بثلث قرن، تمكنت من غزو ما تبقى من مناطق. ومع هذا، حتى وإن كان في الإمكان الادعاء بأن الرسالة الدينية المناهضة لممارسات استغلال الدين، بدت واضحة وقادرة على التأثير، يمكن القول أيضاً، انها لم تغير في الأمور شيئاً طالما ان الواقع البائس لمجتمع أميركا العميقة، هو أقوى من كل فكر وعقلانية.
> تتحدث الرواية عن شخصية مدهشة هي شخصية إلمر غانتري، الذي ندرك منذ البداية انه مجرد حكواتي نصّاب يدور بين الحانات راوياً حكايات تثير الضحك، محتالاً على هذا من الزبائن أو ذاك لنيل رزقه. ولكن يحدث ذات يوم، حين كان في حانة، ان دخلت سيدة من عصبة «جيش السلام» لتجمع التبرعات لطائفتها... فإذا بإلمر يتحول فجأة ليتحدث عن الذات الالهية في لهجة خطابية مفخمة، ثم يقوم بنفسه بجمع التبرعات للسيدة. ومنذ تلك اللحظة يشعر بأنه وجد طريقة للعيش الرغيد ولاكتساب الرزق، فيبدأ بالتجوال بين مكان وآخر، خطيباً - على الطريقة نفسها التي سيخطب بها بيلي غراهام، أحد كبار أصحاب الطوائف الأميركية ودعاة التلفزة في الثمانينات من القرن الماضي -، مدعياً المعجزات والايمان، محققاً الارباح.
> وتزداد حدة نشاطه حين يحدث له يوماً ان يشهد قداساً زنجياً مفعماً بالموسيقى والحركة... وكل هذا يضيفه الى مخزونه، حتى يلتقي يوماً بـ «الاخت شارون فالكونر» وهي بدورها داعية واعظة، فيفتتن بها ويتبعها من مكان الى آخر، ثم يبهرها إذ يريها كيف ان كلامها أقنعه وها هو يعتنق افكار طائفتها. ولاحقاً خلال الاجتماع التالي لطائفة شارون يأخذ صاحبنا الكلام، في شكل استعراضي عميق الايمان، فخم اللغة، وتحقق موعظته نجاحاً غير متوقع، إذ سرعان ما ستخبره شارون ان أكثر من نصف حضور العرض المشترك قد انضموا الى الطائفة على الفور. غير ان شارون التي تتحمس لهذه الشراكة الجديدة والمثمرة، لا تنتبه في البداية الى فوارق أساسية بين خطابها وخطاب إلمر: هي تتحدث عن إله طيب وسعيد ومتسامح، أما إلمر غانتري فيتحدث عن إله قاس يعاقب ولا يتهاون في شيء. ولسنا في حاجة هنا الى القول كم إن الجمهور مال نحو خطاب إلمر، أكثر من ميله نحو خطاب شارون.
> المهم انه منذ تلك اللحظة تسير الرواية في خطوط متعددة ومتشابكة، إذ سرعان ما تدخل الصحافة عنصراً جديداً فيها وتتحول اللعبة كلها الى لعبة استعراضية، ترسم انتصارات إلمر غانتري ووسائله الديماغوجية ومواعظه الصاخبة، على الايمان الهادئ والعميق الذي تعبر عنه شارون. انما من دون أن يقوم أي صراع بين الاثنين، ذلك ان الصراع والانتصار فيه حتى وإن كان أيديولوجياً، ليس ما يهم إلمر هنا. ما يهمه هو النجاح والكسب وأن يجرب قدراته الخطابية بين جمهور يزداد عدده أكثر وأكثر. والحقيقة ان في هذا البعد بالتحديد، يكمن جوهر رواية سنكلير لويس. فهو إنما كان يستهدف أولاً وأخيراً تصوير ذهنية الناس وانقيادهم وراء الخطاب الديماغوجي الذي يدغدغ مشاعرهم. ولئن اختار هذا النوع من استغلال الخطاب الديني موضوعاً لروايته فما هذا إلا لأن ذلك كان السائد في أميركا. ومن هنا ما قاله النقاد الفرنسيون عن «إلمر غانتري» حين ترجمت الى الفرنسية في العام 1932: «انها اوفى صورة تتوافر لنا حتى اليوم، عن المجتمع الأميركي وحياته... انها صورة مرعبة ولكنها حقيقية».
> أما بالنسبة الى ما يلي من حوادث، فانها تتمحور من حول تلك العلاقة التي تقوم بين غانتري وشارون فالكونر، فهو بعد ان كان مساعدها أول الأمر، ثم المضارب عليها خفية، يصبح عشيقها ما يمكّنه من ان يسيطر على الوضع تماماً. غير ان شارون سرعان ما ستهلك في حادثة، ما يطلق يدي إلمرغانتري تماماً على اعتباره وريثها ومحط ثقة جمهورها، الذي لم يكن قد تنبه بعد انه كان قد صار جمهوره منذ زمن بعيد. وهنا، بعد فقدانه شارون، إذاً، يتابع غانتري مسيرته صاخباً مظفراً، عبر خطاب يزداد ديماغوجية، كما عبر ممارسات نصب، يختلط فيها الطب «بالدين» والمعجزات بالصراعات، والديماغوجية باثارة مخاوف الجمهور من نهاية العالم المقتربة، يحقق إلمر انتصاراته الكبرى، حين يتألب هذه اصحاب البدع الآخرون، ومسؤولو الكنائس الرسمية المحلية، غير انه يتمكن من الانتصار عليهم جميعاً، وقد صارت له آذان الجمهور العريض، وتكون النتيجة ان ثروته تزداد ويتزوج من جديد، ناكراً كل التهم التي راح يوجهها اليه خصومه. ان المنتصر في نهاية الأمر هو النفاق. أما الضحية فهو الدين الصحيح وايمان البسطاء الذين يفتنهم إلمر محولاً إيمانهم الى وسيلة تزيد ثراءه ثراء.
> واضح هنا ان سنكلير لويس، قد وصف منذ ذلك  الوقت المبكر ظاهرة تتفاقم أكثر وأكثر في أيامنا هذه. ولنا هنا ان نتصور ما كان سيبدو عليه موقف لويس ورأيه، إذا رصد في بلاده خصوصاً، ولكن عند شعوب أخرى وفي مناطق أخرى، ما يحدث، بفضل التلفزة، من إمعان في انتصار الخطابات الديماغوجية واستغلال الدين - كل دين - للترويج إما للمتطرف (اللاديني في حقيقته) من أفكار، وإما لتحقيق الثروات.. فهل يذكّر هذا الأمر قراءنا العرب بشيء؟ حسناً، لهم أن يقرروا، أما نحن فنكتفي بالقول إن سنكلير لويس حقق بهذه الرواية، عمله الادبي والفكري الاكبر، وإن أثار ضده شجباً كبيراً. مهما يكن فان هذا الكاتب الذي عاش بين 1885 و1951، كان معتاداً على ذلك النوع من ردود الفعل جابه بعض رواياته ومؤلفاته الأخرى ومنها «باببت» (1922) و «الشارع الرئيسي» (1920).

 
   
 


 

نقوم بارسال نشرة بريدية اخبارية اسبوعية الى بريدكم الالكتروني ، يسرنا اشتراككم بالنشرة البريدية المنوعة. سوف تطلعون على احدث المستجدات في الموقع ولن يفوتكم أي شيئ





 
في صباح الالف الثالث
الأحد 23-10-2016
 
يـا ســاحة التحرير..ألحان وغنـاء : جعفـر حسـن
الجمعة 11-09-2015
 
الشاعر أنيس شوشان / قصيدة
الأربعاء 26-08-2015
 
نشيد الحرية تحية للاحتجاجات السلمية للعراقيين العراق المدني ينتصر
الثلاثاء 25-08-2015
^ أعلى الصفحة
كلنا للعراق
This text will be replaced
كلنا للعراق
This text will be replaced