عادة ما يتمركز وجود مدينتنا حول متحفها وكأنّه نواة ديمومتها وبذرة مستقبلها، تغدو وكأنّها الوجود الهامشي العابر في إحاطتها بالنواة، فيرتبط مصيرها به،

وتترسخ لدى عشاقها فكرة أن كلّ أذى ينال المتحف – ذاكرة الماضي، سيهدّد مستقبل المدينة وديمومتها في الذاكرة البشرية ويكشف عن ترابط العلاقة بين المدينتين: مدينة الأبديّة ومدينة الزّوال.

المدينة الحية: هي المتغيّرة، الزائلة متكرّرة الولادة، الرابضة وسط أقاليم النزاعات الدولية، والمطعونة بالحروب والغزو وجشع ولاة أمرها ودموية نظمها المتتابعة وعنف الاحتلال ونواتجه من سلطة ثيوقراطية تتقمص ملامح ديموقراطية مشوهة وهي غارقة في تأويل الأساطير وظلال الصراع التاريخي على السلطة والمكانة. في هذا الوضع المتزلزل تتداخل المدينة مع الزمن خلسة وتدوّنُ النصّ الخفيّ لأحوالها وتتوصل بشيء من العسر إلى إنجاز فعل الحياة وسط الميتات والخراب الكاسح والتمزّقات الاجتماعية والتحولات الديموغرافية المتسارعة.

تظهر المدينة كوجود زئبقيّ رجراج تارة ووجود مقيّد بالزّمان والمكان بشيء من الثبات، لكنها تضمر وجودًا خياليّا طموحًا لا يهبط إلى الأرض ولا يركن إلى الوقائع اليومية؛ إنما يتخذ حضورًا سديميًا وعلويًا ينطوي على مجمل التجليات الفكرية والروحية لطبقاتها الحضارية. إنها المدينة - النصّ - الأقرب إلى بداهات الشعر وفانتازيات التخييل تتداولها العقول والأحاسيس الخبيئة: مفردات، قصائد، رغبات مقتولة، روايات وحكايات وذكريات جمعية موصدة على أسرار موسيقات وترانيم تتعالى من النوافذ والشرفات المهملة وتتبدد بين الأزقة المعتمة والقصور العباسية وتتمازج مع صيحة الحلاّج:

(يامُعين الفناء عليّ، أعنّي على الفناء...)

يقاطعه صوت من بين الجمع:

- أنت تناوىء ولاة الأمر، وتحرّض الناس في الاسواق على الخليفة.

- لاشأن لي بتحريض الناس كما يتراءى لكم، إني أتساءل صبحًا ومساءً: (أما تؤمنون بأن الله خلق الدنيا في أحسن تقويم؟؛ فعلام اضطربت واختلّ نظام الكون؟ من أين يجيء الشرّ؟ ما أسباب الظلم؟ من أخرس كلمات الحق في قلوب الناس؟)

تتصادى كلماته بين ضريحه المنسيّ قرب مستشفى الكرامة وجسر الشهداء في كرخ بغداد، تتبعها جوقة طبول منادي الخليفة معلنًا قرب إعدام الحلاج وتقطيع أوصاله أمام الحشود.

أرادوا للمتحف أن يكون شاهد زور؛ فهو لا يشير إلى أيّ من صيحات المفكّرين ولا العلماء في عصورهم المتلاحقة، ولا إلى عذابات المصلوبين بين الكرخ والرصافة في كل عصر؛ بل يكتفي بعرض أبّهة الملوك وتألّههم ويضفي الأنوار على حليّ الأميرات ووسائل زينتهن، كما يعرض قوانين الردع وتصاوير المعارك والانتصارات والاسرى والسبايا ويعرض جداريات وريليفات عن رؤوس الأعداء معلقة على شجرة صنوبر في احتفال النصر الآشوري حيث الملكة والملك يتبادلان الأنخاب تحت الرؤوس التي تقطر دمًا.

تزوير الذاكرة

من هنا: من المتحف والكتاب المدرسي يبدأ تزوير الوقائع وانتقائية التاريخ.

تكمن وظيفة المتحف المعرفية في عملية حفظ الفن والآثار وعزلها، وحمايتها من كلّ ما هو خارج المبنى من الأحداث اليومية إلى متغيّرات المناخ أو النزاعات البشرية أو عبث الذين لا يتوفرون على تربية متحفية تميّز بين الثّمين والرّديء وبين الأصيل والمزيف؛ غير أنّ المتحف يتعرّض إلى انتهاك بصريّ عند الفرجة، انتهاك رؤية وتأويلات مضادة، ومحاولات سبر موجوداته من قبل مستهلك المادّة المتحفية؛ فهو من جهة متمنّع ومنكفئ على أسرار موجوداته ومقتنياته إزاء اليوميّ العابر، ومن جهة أخرى هو مراوغ مغناج يعرض أسراره لنخبة من هواة كشف الأسرار وفكّ الألغاز التاريخية لخدمة سلطة ما.  بهذا يكون المتحف نخبويًا وفوقيًا ومنافقًا لأنّه يحجب التحفة والقُنْية الثمينة والأثر عن البشر العاديين العابرين في فوضى اليوميّ الزائل، ويسجن الفن -الجمال ليحميه ويؤبّده في القاعات داخل المباني التي تشترط ثمنًا لتتيح لنا رؤية ما تحجبه عنا.

تماثل بنايات المتاحف قلاعًا حصينة مصمّتة الحجارة مرتفعة الجدران، تتعالى بلا نوافذ ولا فتحات، تطلُّ على المدينة فلا تتيح تواصلًا بين العابرين ومحتوياتها، ليؤدّي المتحف بذلك وظيفة مزدوجة تقوم على العزل بمستويين: عزل الثمين الجميل عن العاديّ والمبتذل ومنحه أهمية أن يكون مادّة متحفية وموضوعًا يجاور المطلق في استثنائيته، وعزل هذا الثمين النادر عن العيون العابرة المنشغلة بهمومها اليومية ومخاوفها وهي التي لاتعتد مطلقًا بقيمة ذلك الثمين النادر؛ فيحصر المتحف مشاهدة موجوداته بالساعين إليه قصدًا ضمن الفضاء المغلق.

يرقد المتحف في قلب المدينة متحصّنًا بأسواره وصلابة رخامه الذي لم يصنه من دمار الاحتلال ونهب موجوداته التي يستخدمها الآخر الناهب لإذكاء نيران حرب الثقافات وعمليات محو الذاكرة تحت موجة الغزو وهجمات اللصوص. يصطنع المتحف نوعًا من قداسة تعزل وجوده عن الوجود الزائل للمدينة تجنّبًا لعدوى تبدّلاتها وتقلبات أحوالها وأهوالها مما يهدّد ثباته وأبديته المتحجرة، ليشكّل المتحف مدينة ساكنة راقدة بكل موتها في قلب المدينة الحيّ، متخذة هيئة كوكب مرتحل في زمن تقويميّ بائد، وقد رُتّبت أقاليم ذلك الكوكب - المتحف حسب تسلسل تاريخي كرونولوجي، فما أن تدخله حتى تأخذك قاعةٌ إلى أخرى وعصرٌ إلى عصر وحضارةٌ إلى حضارة لتمسك بإشعاعات واهنة من حضارات بادت وتركت مواثل منها تحرسها المتاحف المحمية.

لزيارة مدينة السكون الخامدة تقترح عليك مخططاته المعمارية مسيرة لا خيار لك فيها، تغويك فلا تقاوم وتستدرجك فلا تستطيع الإفلات من إغرائها، توقعك في فخاخها وتعدُك بالأبدية مشهرة لك الشواهد والأدلة وتهمس لك:

- ربما ستكون أيّها الزّائر رهينة متحفية في زمن تالٍ، تمثالًا أو نصبًا ماثلًا في خزانة؛ فلا يسعك بعد هذا الاغراء التوقّف أو التراجع، مطلوبٌ منك أن تمضي قدمًا: ترتقي سلّمًا، تنزل رواقًا، تعبر ممرّا وتخترق قاعة مثل مَنْ تورّط في دخول متاهة تنتظر في نهايتها المكافأة.

ها أنت تؤخذ إلى التاريخ المتاهيّ والزمن المتاهيّ، تتماثل مع الشخوص الحجرية فتصبح نصًّا مفتوحًا مغايرًا لنصّ الحجر الساكن، أنت في المتحف نصّ يتجدّد كلّ لحظة ينطلق منه(الشعريّ والرغائبي) ساحبًا وعيك إلى زمن خادع مراوغ لا تملك إزاءه غير الانغمار في وهمك وتماهيك المؤقت مع سحره، يبهرك كنزٌ ملكي من أور، تسمع آهة وصدى نداء من اوروك، تردّدات صرخة وتنويعات نغم من بابل سرعان ما يتلاشى في العدم المتحفي ويدعك في دوّامة من المؤثّرات الخادعة.

في جزيرة الأبديّة، متحف الحضارات الآفلة، سكونيةٌ يشي بها افتقاد العلاقات المنظورة بغياب الحركة والفعل؛ فاللقى والمنحوتات والرُقم الطينية تشخص في سكونها الحجريّ وتنذرنا بمآل زمننا إلى زوالها ، وتتواطأ التماثيل مع الأبدية لتفضح وجودنا الفاني، تشير إلى بذرة الموت في قلوبنا وتسبل أجفانها الحجرية على ذاكرة موتها العتيق الهادئ إزاء موتنا المرتقب.

ننظر بزهو الأحياء المغفلين إلى ظلال الإمبراطوريات الغاربة وهي ترتسم على غضون الملوك وملامح الكهنة المواربة وأسى العاشقات وعذابات الأسرى المساقين قطعانًا الى موتهم، ونكتشف في المسلّات والذهب والمنحوتات تزاوج التاريخ والطبيعة: المضمون والمادة.

التاريخ محتوى الصورة وشفرتها، والطبيعة عنصر الصورة (رخامها، حجارتها، معدنها)، وبتضافر عنصري التاريخ والطبيعة يتخلّق الوهم المتحفي وتتشكّل ذاكرات الأمم في التأويل والتلفيق العاطفي. تعلن المسلاّت في القاعة الأخرى بكتابتها المسمارية قانون الوجود: القوّة والعقاب والثواب، العدالة والقسوة والنظام الذي يدحض الفوضى ويؤلّه الملوك ويرسّخ العبودية؛ ففي مسلّة حمورابي نحت بارز- ريليف - يبدو في الاله شماش - إله الشمس وهو يسلّم القوانين إلى الملك حمورابي ليثبت أنّ الملك خليل الالهة وممثلها على أرض بابل، وأن قانونه منزّل من السماء فلا يمكن الإفلات من تطبيقاته وتنفيذ القصاص الذي يأمر به القضاة وأولو الأمر في بابل.

فجأة يتألّق أمامنا كنز ذهبيّ في قاعة تالية: عينا أميرة من عصر سعيد غابر حولها كنز آخر من حليّ لم تحصّن الأميرة من أفول الجمال على طريق الموت والحبّ المحرّم؛ فتهاوى مجدها الشخصيّ ومباهجها وأحلامها على هضبات الكروم وبين بساتين النخل وحقول الكتان وما أنجزت خلودها في الزمن إنما حققته بمنحنا أسطورتها الذهبية، فقد كتبت رسالتها إلينا بتشنجات الحزن الذهبيّ المرتسم على ابتسامتها التي زيّفها النحّات، وسمعنا نحيبها وشهدنا كبرياءها الذي تجاوز فعل الذهب وسحره الزائد إلى تعاطف إنسانيّ بليغ. كلما تقدمنا في القاعات انهمرت على وجوهنا موجات من غبار العصور المحفوظة في تقاويم الحجر والمعدن وسحبتنا إلى متاهات الماضي وشواخصه. من هذا كله: السياقات المتوقفة والنصوص التي تجمّدت في الحجر لا يفلت وميض ضوء ولا همس ولا دفء، ولا تُخترق الصلابة الدهرية إلا إذا دُرْنا حول الزمن ودخلنا لحظة إشراق أو تجلٍّ روحيّ لنكشف عبر الحدس أو التخييل الروائيّ عن جمرتها الكامنة في لبّ الحجر. حاولنا ونظل نحاول اختراق الكثافة التاريخية للوجود الحجريّ المتحفّي لعلنا نظفر بلمحة سرِّ غيبته في ثنايا الحجر.

تكرر المدينة الحية المغلوبة على أمرها لعبة مراوغة الزمن التي تجيدها المدن التاريخية؛ فتمدّ مطامحها في العمق والأفق، تخلق لبقائها نصوصًا تتوالد من رموز التاريخ وحركة الموجودات الحيّة بينما توجه الصورة الخارجية لحياتها اليومية بواسطة مجموعة من وسائل التدمير الخارجي- الاحتلال- والامتثال الذاتيّ للزوال؛ فثمة كائنات مشحونة بالكراهية للجنس البشريّ ومواثل التاريخ وتشوقات المستقبل، وكائنات مدججة بضروب أسلحة الفتك لاتخفي نواياها، في مدينة تشهر الموت وتزهو بحظر الحبّ وإدامة الحريق وحجر النساء، الجنائز تطوف المدينة التي غيّب عنها الانسان والأمل؛ فلا تتحقّق فيها سوى ديناميكية الموت النشطة ، وكأنها تسعى للتحول إلى متحف عرضي هشّ يحيط بالمتحف النواة: المدينة تتلاشى. الاهمال المقصود يؤهلها لتشوهات، ذهول سكانها ولامبالاتهم يدفعهم لقبول الانمساخ.

ندور في لعبة الأبدية الخادعة داخل المتحف فتداهمنا الصيغة المتحفية الرسمية - التفاسير والإشارات والعلامات - وتصادر عفوية اكتشافاتنا الشخصية، توقفنا كل لحظة ترغمنا على قراءة ما لا نريد معرفته؛ فنحن لا نريد تلك المعرفة الخارجية للتمثال والنصّ والكأس النذريّ والدمية والمسلة، بل نبحث عن النصّ الآخر السرّيّ المدوّن تحت قشرة الرخام وفي طيات الثياب الحجرية وداخل حزمة القصب التي تزين قارب إينانا - عشتار إلهة الخصب والجنس، المتحف يتواطأ مع النصّ الجاهز ضدّ مخيلاتنا فيكبحها ويقدم لنا تقليده الرسمي نماذج مقبولة: أوصافًا عامة وخارجية، قياسات، أرقامًا، أزمنة. هذا لا يعنينا، ما يهمنا هو الفرد المصادر وراء النص، رعب الرجال والنساء من وصائف الملكة (بو آبي) الذين دفنوا أحياء في المقبرة الملكية مع قياثرهم وصنوجهم وحليهم وخناجرهم الذهبية، لاتعنينا قلائد الملكة وألوان جواهرها وتصفيفة شعرها قدر ما تعنينا الصرخة المكتومة لمئات الموؤودين وأنين عذابهم بقدرهم المشؤوم.

يجهل المتحفيون متطلباتنا ويجهل منسقو الآثار في الخزانات والقاعات منابع دهشتنا ورعشة أصابعنا وسلسلة المعاني والإيحاءات التي تثيرها فينا خرزة لازورد منقوشة بتعويذة سحرية أو ما تقترحه علينا نقوش مسلة قرأتها قبلنا آلافُ العيون التي إنطفأت في موجات غزو أو طوفان نهرين أو طاعون كاسح أو مجاعة أو موت قصاص من أجل خرق للمألوف. ما يهمّنا حقًا لوعةُ تلك الصبية التي سباها الفاتحون وذلك العبد الذي وصموه بحلقة معدنية في خصلة شعر أبقوها على قمة رأسه ليسهل تشخيص عبوديته بين أحرار الدويلات العتيقة التي نهضت على جهد العبيد من الأسرى، ما يعنينا أكثر تحديقةُ الشهوة في عيني ليليث، وطائرا البوم على جانبيها يرصدان لها الذكور العابرين في ملكوت تمردها.

النصوص المتحفية تخدعنا بإخفاء الحقيقة التي تنطوي عليها حركة أيدي المتعبدين المعقودة بالطريقة السومرية على الصدور العريضة، والتعريفات المبتسرة تضيف عقبة جديدة أمام فضولنا. المدينة والمتحف نصّان متناقضان، المدينة في أحوالها العادية تتبدل، تتجدد، تكتشف، تتبدّى، تتلاشى، تتحلّل كلّ لحظة وتسفر حركتها عن انهيارات ونُذُر ووعود، والمتحف بوضعه السكونيّ الثابت يقدم بكلمات محددة أساليب وأشكالًا خارجية لمعانٍ ودلالات جرى تغييبها وراء القناع اللغوي المعلن. يبقى التعارض حيّا بين مدينة التغيير والموت والزوال والولادات وبين مدينة الأبدية التي يقترحها المتحف إزاء الزوال اليوميّ الجائح، ويقدّمها تعويذة خادعة ضد فناء الانسان في اضطراب المسيرة الإنسانية وصراعها المستديم مع الفناء وهي تعبر ممرات التاريخ.